ظلال

 

هناك أشخاص تحس بخصوبتهم، كأنهم حقل أقحوان وزنابق وموز. كأنهم جاؤوا إلى هذا المكان

خصيصاً لكي يتسببوا في تخصيب السعادة وتحسين سمعتها.

طاهر رياض في عمان بدفئة كشاعر لا يمكنك تجاهل الرابط الذهبي بين شعره وشخصه. اشتركنا معاً في أمسية شعرية واحدة في مدرج الأوديون في عمان. وقلت محذراً ومازحاً: ممنوع تقرأ القصيدة التي تنتهي بجملتك الشهيرة: “البحر سراب مملوء بالماء”.

جمانة مصطفى ـ مديرة الملتقى “خان الفنون” لا تكف عن الركض كغزالة نحو الماء قائدة مجموعة من المبدعين إلى اجتراح معجزة الفن ونشره وعرضه وتكراره سنة وراء سنة. لكن جمانة خرجت من أول حرف كتبته، من خراب الشاعرات الآسفات على غرام زائل أو شباب غارب، فأهدتني كتابها الجديد ” أعتدت ألا يراني أحد”.

“أريد أن أكتب قصيدة سعيدة، وأريدها عنك.

على العالم أن يستريح الآن. أن يجلس على ركبتي لأقرأ له.

لن أعتني بالنص. سأعتني بالصدق.

سأقول أني انتظرتك ولم تنتظرني، وأن كبريائي بخير.

سأحدث النساء والأطفال عنك. سيضحكون، سيبكون ثم يبتسمون. سأحرص في النهاية أن أراهم يبتسمون

لأنها قصيدة سعيدة عن الحب”.

عامر زيدان… شاعر فلسطيني، وطبيب أسنان. مفاجأة كشاعر، لم أقرأ له من قبل. وهو لا يقدم نفسه كشاعر لكنه يتقدم، حين يقرأ، من قلبك ويقرع كأس قصيدته بمخمل دهشتك:

“في الأربعين يبدأ النسيان. العقل يصبح سيداً والقلب خادمه المطيع.

يمشي، ويحمل سلة للذكريات. يلم حادثة وحادثة تضيع. العقل يعرف أن نسيان المكان مبرّر، والقلب يدرك

أن مَن سكن المكان تغيروا. وأنا أبرر لعنة النسيان في جسدي، فحين نسيت عيد الأم قلت: هذي هي

الشيخوخة المبكرة.

وحين نسيت عيد امرأة أخرى… فرحت: هذا ازدحام الذاكرة.

في الأربعين… تقول لي أمي:

كم بلغتَ من النساء؟

وتقول لي امرأة: تذكّر كم بلغتَ من السنين”.

…………………

ثمة رجل أنيق في الخمسين،أستاذ في جامعة “بير زيت” ـ فلسطين. عندما قدّمه لي الصديق طاهر رياض: هذا مجموعة رجال في رجل وكلهم متميزون. وقال صديق آخر هذا الرجل موسوعة على قدمين. وقال ثالث: هذا الرجل هو من تستفيد منه معرفياً حتى لو قال لك فقط صباح الخير على الإفطار.

وهو قال عن نفسه: أنا كنت مشروع شاعر. وقرأ لنا قصائد من ذاكرته… هذا هو الرجل الموسوعي، الحكيم، الفهيم، المتحدث، المحب، صاحب الاسم الغريب الجميل: إبراهيم أبو هشهش.

أحد شركائي في الأمسية… صديق قديم من فلسطينيي دمشق، يعيش في رام الله. لم نلتق منذ ثلاثين عاماً. حين قرأ قصائده اللاذعة تذكرت تلك الموجة التي سادت في السبعينات في دمشق: الشعر الثوري الذي يحرر الإنسان والأوطان. كانت متعة استعادة الأيام الخوالي تتناثر في شارع عام ونحن نمشي أنا وخالد درويش.

……………………

آني آني… الرسامة الأرمنية، إذا التقيتها في أي مكان سوف تخمن أنها فنانة تشكيلية.

لوحاتها ستجد فيها عذاب الكتلة البشرية وهي تنجب وتنجب للتشوهات وللموت والمجهول. كان أبوها واحداً من أهم الصاغة في لبنان. قتلوه في الحرب الأهلية في السبعينات. وأظن أن ذلك اللون الأسود والوجوه المدمرة… هي إشعارات عميقة بما حدث لفتاة عمرها 10 سنوات.

………………

هناك عدد آخر من الأشخاص الذين كلما التقيتهم أحسست كم أن الزمن ما زال يذكرنا بأن الموت يأتي إلى البيت، فيأخذ كل شيء… لا يبقي على شيء، ولكنه ينسى أحياناً لوحة على جدار لرجل ما زال شاباً، لأنه رحل منذ أمد بعيد. وبقيت صورته كما كان منذ أمد بعيد!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى