انحطاط الحضارة الأميركية
يتميّز موريس بيرمان في كتابه “انحطاط الحضارة الأميركية”، برغم صدوره في العام 2000 بالإنجليزية وفي العام 2010 بترجمته العربية، أنه فكّك بوضوحٍ مأزق الولايات المتحدة الأميركية، ومستوى الهبوط الثقافي فيها.
يبدأ بيرمان مُقدّمة الكتاب بقوله: “إن الحضارة الأميركية في ورطةٍ يشعر بها ويحسّها ملايين الأميركيين مع إطلالة القرن الحادي والعشرين، وبعض المئات منهم يكتبون الكُتب والمقالات عنها، موثّقين اتجاهاتها ومُحلّلين أسبابها“.
هناك مؤلّفات مثل “انتظار البرابرة” للويس لابهام أو “إمبراطورية فقر” لروبرت كابلان، تملأ رفوف المكتبات، قد تحدّثت عن الأنظمة المدرسية المُتهاوية، والأميّة الوظيفية المُنتشرة على نطاقٍ واسعٍ، وجرائم العُنف، وعدم المساواة الاقتصادية الصارِخة، واللامُبالاة، وما يُسمّى بـ”الموت الروحي”. إن الأمر لا يحتاج لـ”إمرسون” أو “إينشتاين” لإدراك أن النظام الرأسمالي فَقَدَ مرساته وهو يجنح بشكلٍ مُتزايدٍ نحو حال اختلال وظيفية مثل روما القديمة.
ويضيف موريس بيرمان: “ولا يزال لدينا ثقافياً وعلى مستوى الأفراد العديد من الطُرق لإخفاء هذه الحقيقة عن أنفسنا. فهنالك الكثير من المُسكّنات حولنا مثل الدُمى والألعاب الالكترونية الجديدة التي تندفع نحونا باستمرار وثبات، ووسائل الإعلام البارِعة التي تُغرِق البلد بالمشاهد التي تجعل عقولنا مُركّزة باستمرار على الأمور السخيفة والمُثيرة مثل محاكمة أو. جي سمبسون، وموت الأميرة ديانا، وحياة بيل كلنتون الجنسية، ومعلومات التسلية على طريقة السي. أن. أن”.
ويؤكّد بيرمان أن “المسألة أعمق من هذا بكثير، ومهما بدا هذا مُتناقِضاً، فإن انحطاط الحضارة هو حيويّتها، وقوّة أميركا واضحة للعيان، وهي أول شيء يُلاحظه زوَّار هذا البلد وغالباً ما يُعجَبون بهذه القوّة، حيث يُلاحظ الزائِر دائماً انشغالاً ما في الجو العام: فيلم جديد أو فضحية جديدة أو فكرة جديدة يتجاذبها الناس لأيام عدة، وطبعاً يُلاحظ تقلّبات سوق المال التي لا تتوقّف أبداً”.
ويتساءل بيرمان “كيف نتحدّث عن انحطاط الحضارة الأميركية بينما نسمع تأكيد الرئيس الأميركي بيل كلينتون في خطاب حال الاتحاد لعام 1999 يذكر فيه أن الاقتصاد الأميركي هو أقوى اقتصاد في العالم منذ ثلاثين سنة، وأن البطالة مُنخفِضة وأن ازدهارنا واضح، ولكن ما لم يُخبِر به كلينتون هو أن هذه المعلومات التي قدَّمها والتي بذل كثيرٌ من المُحلّلين جهداً كبيراً في توثيقها هي معلومات مُضلّلة، وهذا التضليل مقصود”.
إن هذا الازدهار المُشار إليه يشمل الأغنياء فقط، بينما الواقع مختلف كثيراً بالنسبة لمُعظم الأميركيين، وإن الفجوة مُتّسعة جداً اقتصادياً بين الفقراء والأغنياء.
ويظهر بيرمان في هذا الكتاب “أن ما نتبجّح به عن القوّة الأميركية ليس واقعياً أبداً، لا يكفي أن نقول إن نشاطاتنا تغطّي مختلف مناحي الحياة، ولكن يجب أن نقول إننا نقوم بأداء انحطاط حضاري عميق كما وصف في كتاب أوزولد سبنغلر (انحطاط الغرب). فلكل حضارة مرحلة أفول تتحّجر في فترةٍ كلاسيكيةٍ مُحتفِظة بالشكل فقط، ولكنها تفقد محتواها أو روحها الأساسية، وهذا ما حصل للحضارة الأميركية “حضارة الاستهلاك” أو “الشركة التجارية الاستهلاكية المتحدة” كما سمّاها العالِم السياسي بنجامين باربر. وإذا ما تفحّصتَ أيّ إعلان تلفزيوني لشركة نايك أو بيبسي ستجد أن هذه الشركة فيها حيويّة كبيرة جداً. المشكلة هي أن هذه الشركة أو تلك هي نفسها الانحطاط الحضاري الذي أتكلّم عنه”.
ويُشير بيرمان إلى أن الروائي الأميركي “دون ديليليو” كان قد تحدّث في روايته “الضجّة البيضاء” التي هي رائعة من روائع الأدب، والتي أصدرتها وترجمتها دار التنوير في بيروت، عن فكرة الانحطاط، فيُصوِّر حضارة تجارية مشغولة بالربح ومُبتلاة بعدم وجود هدف لها وبجنون العَظَمة.
لقد تطوّر عصر الانحطاط هذا بشكلٍ تراكُمي. إن الأميركيين يحبّون الدَجَل السياسي وسوف يدفعون مبالغ كبيرة لكي يسمعوا أن الأمور ليست سيّئة إلى هذه الدرجة، وأن مشكلات الحضارة الأميركية يُمكن أن تُحَل روحياً وبسرعة. لكن المشكلات البنيوية تتطلّب حلولاً بنيوية.
أما عن تراجُع المستوى التعليمي والثقافي، فيقول بيرمان: “في أميركا، 40% من الأميركيين لا يستطيعون تحديد مكان اليابان على خريطة العالم، 15% لا يعرفون مكان الولايات المتحدة نفسها، 58% لا يفهمون افتتاحية الصحف الكبرى، 60% لا يعرفون كيف تأسّست بلادهم، 21% يعتقدون أن الشمس تدور حول الأرض، 60% لم يقرأوا كتاباً طوال حياتهم،”.
ويُحذِّر بيرمان من عصور ظلام مقبلة. فقد اطّلع بيرمان على مادةٍ خامٍ لطالبة جامعية فوجد فيها سبعة أخطاء نحوية. و”النظام التعليمي مُنهار، الإعلام حوّل الناس إلى مهابيل، أما الأدب الرفيع فقد اختفى، لم يعد أحد يقرأ هنري جيمس أو ويتمان في مقابل اكتساح روايات دانييل ستيل”. وبالمناسبة تحتل ترجماتها مواقع مميّزة في منافذ بيع الكتب العربية.
إن الحقيقة نفسها هي التي تشفي وليس أحلام العصر الجديد أو عوالم الأحلام الشعبية. والحقيقة هي أن التغيير الحقيقي هو تغيير تاريخي. وإذا كان مَن يُشير إلى سقوط الاتحاد السوفياتي كمثالٍ للتحرّر المُفاجئ، دعونا نتذكّر أن ذلك الانهيار كان يتشكّل على مدى ثلاث وسبعين سنة، وقد حصل أخيراً بسبب التناقُضات البنيوية التي لم يعد بالإمكان حلّها.
إن الشفاء يوجد فقط على المدى الطويل، وشفاء أميركا سيحدث بالتزامُن مع حدوث تغيّرات بنيوية في الاقتصاد، وهذا ينطبق على كل الأمم الصناعية المُتقدّمة. وهكذا عندما حاول وزير المالية الألماني أوسكار لافونتين أن يفرض ضرائب أعلى على الصناعة في عام 1999 وأن يُقاوِم محاولات التقليل من برامج الرعاية الاجتماعية فقد هدَّد أصحاب الأعمال بنقل أعمالهم إلى خارج ألمانيا. وقد تأثّر الاقتصاد الألماني بهذا. وأخيراً استقال لافونتين، وعلّقت صحيفة “واشنطن بوست” على ذلك بالقول “إن استقالة الوزير تُبيّن محدوديّة قدرة أيّ سياسي بمُفرده أو أي بلد بمُفرده على اجتثاث الرأسمالية”.
إن اضمحلال سيطرة الاحتكارات عندما سيحدث – كما حصل مع الاتحاد السوفياتي – سيحدث بسبب عدم قدرة النظام على حماية نفسه إلى ما لا نهاية. هذا النموذج للانهيار هو ظاهرة تاريخية مُتكرِّرة الحدوث وهي ظاهرة طويلة المدى وتتعلّق بجوهر النظام.
إن الكُتب التي تدعو إلى تغيّرات نوعية سريعة تعكس ليس السذاجة الأميركية الشعبية فقط، بل عدم قدرة على الصبر أيضاً غير مفهومة إزاء حقيقة إن التاريخ نادراً ما يتحرّك بسرعةٍ كحركةِ إنسانٍ مُنفرد.
ويطرح بيرمان رؤيته للحل بقوله “إن حلّي لأزمتنا الحضارية المُعاصِرة – والذي أسمّيه “الخيار الرهباني” أو ” خيار الرهبان”- هو بالتأكيد حل بعيد المدى ولكنه يشير على الأقل إلى وجود مثالٍ تاريخي لحفظ وحماية الحضارة بشكلٍ مقصود. إن مثل هذا النشاط لحفظ كل ما هو جيّد في حضارتنا سيؤثّر إيجاباً على الذين يقومون به. إن كلمة أفول تعني “فجراً في آخر الليل”، وعند نقطةٍ ما سوف نخرج من فجرنا المُعاصِر وعصر الظلام القادم”.
ويُعطي بيرمان مثالاً تاريخياً على ذلك هو: مجموعة من البشر ولا سيما الرهبان الذين لم يستطيعوا الانسجام مع الوضع العام للإمبراطورية الرومانية السائِرة نحو الزوال اَنئذٍ، والذين كانت لهم تجربة الغُرباء في عالمٍ غريبٍ. لقد اعتبروا أن كل الأشياء التي أهملتها الامبراطورية هي أشياء قيّمة، والأشياء التي اعتبرتها جديرة بالاهتمام هي أشياء تافِهة ومُدمِّرة”.
ويُضيف بيرمان: “عندما أتكلّم عن فئةٍ معاصرةٍ جديدةٍ من الرهبان فأنا لا أقصد ذلك حرفياً. أنا لا أتكلّم عن الزُهد أو الممارسة الدينية ولا عن التنظيم في مجموعات رهبانية، ولكنني أتكلّم عن الرفض. إن راهب اليوم مُصمّم على مقاومة التشوّش الذهني والإعلانات التجارية والتسويق التي يقوم بها نظام الاحتكارات العالمي. إن الحاسوب والإنترنت بالنسبة لهذا الراهب أدوات مُفيدة ولكنها ليست طريقة حياة”.
إن الراهب الجديد يؤمن بقدسيّة وإنسانية الإنسان، فهو لا يُكرِّس نفسه للشعارات أو لهُراء ما بعد الحداثة، ولكن لِقِيَم التنوير الموجودة في قلب حضارتنا مثل: البحث النزيه عن الحقيقة وتهذيب الفنون والالتزام بالتفكير النقدي.
ويخلُص بيرمان إلى أن كتابه هذا هو كتاب لغريبي الأطوار، لرجال ونساء يعتبرون أنفسهم أجانب في بلدهم. إنه دليل للقرن الحادي والعشرين وما بعده. إنه يحاول أن يُعطي القارِئ الإحساس بـ”أين نحن” بتوصيف تاريخي. إنه طريقة لتعريف الشخص بما يجري في عالمنا المُعاصِر لكي يتمكّن من إيجاد المعنى في حضارةٍ تتلاشى. ورغم كل ذلك هناك جوهر حيّ في داخلنا، “كلّنا يتعطّش للوصول إلى الحقيقة”.
الجدير بالذكر أن بيرمان، هو مؤرِّخ ثقافي أميركي مرموق، وصاحب كتابَ شهير آخر هو “عصور الظلام في أميركا: الطور الأخير من الإمبراطورية” ، وكلا كتابيه أحدثا سجالات شديدة لا تزال مُستعِرة.
الميادين نت