علمانيون يحتجون على نتائج أخطائهم

 

التوظيف السياسي” تهمة يمكن أن تطال كل النشاطات البشرية، ابتداء من المرافعات الحقوقية ووصولا إلى الشعائر والطقوس العبادية، إذ لا يمكن لفرد أو جماعة أن ينجو أو ينأى بنفسه من هذه ” الكليشة” الجاهزة التي تمثل نوعا من ” الجوكر” في لعبة الصراعات الحزبية.

وبناء على ما تقدم يمكن وضع ما أقدم عليه أنصار حزب ” تيار المحبة” الإسلامي في تونس حين احتلوا شارع بورقيبة الشهير وسط العاصمة التونسية، يوم الجمعة الماضي، وجعلوه أرضية لصلاة جماعية، في خانة التوظيف السياسي، خصوصا وأنه جاء وسط احتقان حكومي وحزبي، وغليان اجتماعي. لكن الجهة أو الجهات التي أدانت هذه الحركة التي وُصفت بالاستفزازية، لا يمكن أن نبرأها هي أيضا من تهمة التوظيف السياسي.. وهكذا يصبح التوظيف السياسي بمثابة الورقة التي يلعب بها الجميع، ويزايد بها الجميع على الجميع.

وفي هذه الحالة التي خلقت جدالا واسعا في تونس، ومازالت تُطرح حتى في دول أخرى حول الحريات الدينية ومدى أحقية ممارساتها خارج دور العبادة، وما يؤديه ذلك من تعد على الفضاءات والمرافق العامة، لا يمكن للمرء في هذه الوضعية إلا أن يعود للنصوص القانونية لتكون بمثابة الكلمة الفصل، ومن ثم تنفذ الإجراءات المتخذة بحق الطرف المعتدي، سواء كان الطرف الذي أدى طقوسا دينية خارج دور العبادة وتسبب في أضرار معنوية ومادية لحقت بالآخرين أو الجهة التي تريد أن تمنع جهة أخرى من ممارسة حريتها الدينية المتمثلة في أداء صلاة جماعية بطريقة سلمية ودون عنف أو استفزاز أو إضرار بمرافق عامة وخاصة.

المشكلة والمفارقة الغريبة في تونس أن تقرير لجنة “الحريات الفردية والمساواة” هو المتسبب في هذه المناكفة وهذا الاحتقان الشديد بين أطراف ذات مرجعية إسلامية ترى في هذا التقرير تعديا على مبادئ الدين واستهتارا بالقيم الاجتماعية، وبين قوى علمانية وليبرالية ترى في تبني هذا التقرير صونا للحريات وضمانا للسلم الأهلي. وبين هذا وذاك يشتد التناطح في ظل وضعية سياسية هشة، وتحضيرات مبكرة للانتخابات الرئاسية العام المقبل.

ولا شك أيضا أن حركة النهضة التي تتزعم التيار الإسلامي في تونس قد ازدادت تمكينا وفرصا أكبر للتحشيد وممارسة الأنشطة التعبوية، بعد تمكنها من الفوز بعدة مراكز في الانتخابات البلدية وخصوصا منها المدن الكبرى، حيث أن أنصارها أصبحوا ” طليقي الأيدي وفق قانون الحكم المحلي، في استعمال مناطق نفوذهم في أغراض قد تتماشى وقد لا تتماشى مع الهدف الأساسي الذي انتخبوا من أجله” كما يقول المحلل السياسي التونسي محمد بوعود، الذي يضيف متسائلا: هل تقدر الحركة على المواصلة في استغلال التقرير للتحشيد لـ 2019 أم أنها ستبتكر آليات دعاية جديدة في كل بضعة أشهر من أجل المحافظة على جاهزية عناصرها إلى حدود الاستحقاق القادم؟

ينبغي أن لا يتجاهل هؤلاء الذين ضاقوا ذرعا بساعة صلاة جماعية في ساحة عامة أو شارع طويل وعريض بأن ديمقراطيات عريقة في الغرب الأوروبي لم تتجرأ إلى الآن على منع إقامة الصلوات الجماعية التي تمتد وتتوسع إلى الشوارع والحدائق العامة بل وفّرت الحماية لحشود المصلين، واعتبرت الأمر يدخل في بند الحريات الدينية، خصوصا في المناسبات الدينية الكبرى.

ليس الأمر دفاعا عن جماعات تنظّر للدولة الدينية، تتمترس خلف ذرائع واهية، وتتعدى على الفضاء العمومي بنوع من الاستعراض العنجهي، لكن جملة أسئلة تُطرح على الذائدين عن العلمانية في الوقت بدل الضائع وهي: هل تناسيتم أن التيار الإسلامي يسيطر على المجالس المحلية في المدن التونسية الكبرى وفق انتخابات ديمقراطية ونزيهة، وبالتالي من حقه سن قوانين تبيح لهؤلاء الصلاة في الشارع العام، لا بل يمكن لهذه البلديات التي يرأسها إسلاميون أن تسحب تراخيص محلات بيع الخمور التي يعج بها شارع بورقيبة ذي الرمزية الحداثية الفاقعة، والتي يجلس فيها مدعو العلمانية من اليسار والليبراليين على حد سواء، دون أن يحركوا ساكنا ودون أن يكلفوا أنفسهم حتى عناء الذهاب إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات البلدية.. وهنا يقول القائل بالحجة والمنطق: ذوقوا ثمار ما زرعت أياديكم من تقاعس وعدم الذود عن مبادئ جئتم تذكّرون بها بعد أن سبق السيف العذل.

نعم، لا يمكن إنكار التوظيف السياسي في ما فعله هؤلاء المصلون الاستعراضيون في شارع بورقيبة وسط العاصمة التونسية، ولكن، وفي المقابل، ما ذا نسمي المهرجانات الخطابية التي ينظمها اليساريون والليبراليون في نفس الشارع عشية كل سبت؟ ألا تُعتبر بدورها استفزازا في نظر حركة النهضة التي باتت تتمتع بغالبية برلمانية؟

المشكلة لا تتوقف عند مجرد إقامة صلاة.. إنها جملة رسائل يبعث بها كل طرف لآخر داخل شارع يكتفي رمزية كبرى، والخطأ يأتي من القوى الديمقراطية والعلمانية التي تقاعست عن أداء دورها ثم جاءت تحتج بعد أن ” حُصّل ما في الصدور”.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى