حياة أطول: حكمة أكثر وأخطاء أقل

أمر منطقي أن يتناسب معدّل العمر مع إيقاع العصر، فلقد ولّى العصر الذي كان فيه الإنسان ينجز عملا واحدا ـ أو نصف عمل ـ طيلة حياته كما هو الحال لدى المعماريين والنحاتين والبنائين عند قدماء الإغريق والرومان. لم تكن معدلات العمر تعطي لأصحابها من العلماء حتى فرصة مشاهدة تجاربهم وتبادل الخبرات مع زملائهم وتلاميذهم، أما اليوم فقد أصبح ” الوقت يعطي الوقت للوقت” كما يقال.

لطالما ردد الناس في حياتهم، وبحسرة شديدة، عبارة ” حياة واحدة لا تكفي”، ولطالما سابق الإنسان عقارب الساعة فهزمته، ومات دون تحقيق أحلامه التي يساهم العلم اليوم في إنعاشها وتحقيقها فغدت واقعا لم يكن يتخيله إنسان الأمس.. من قال لإنسان عصر النهضة مثلا إن أحفاده سيعيشون ثلاثة أضعاف عمره في القرنين العشرين والواحد من العشرين؟

تثبت السجلاّت والحفريات التاريخية أن معدَّل العمر في القرن الخامس عشر بأوروبا لم يكن يتجاوز 33 عاماً، وذلك بسبب انتشار الأوبئة والحروب وتأخر العلوم عن إيجاد الأدوية واللقاحات. وكان المحظوظ من الناس هو من يستطيع أن يرى له أحفادا أو حتى يتمكن من تكوين أسرة وإنجاب أبناء. أما اليوم وقد امتد معدَّل العمر وتضاعف إلى ثلاث مرات في كثير من البلدان ليبلغ نحو 80 عاماً وأكثر، وبدا المجتمع مختلفاً تماماً عما كان، إذ يتمتع معظم الناس اليوم بالعيش مع أحفادهم وأحياناً أبناء أحفادهم. كذلك تصبح الذاكرة الاجتماعية والمعرفية أنضج مع وجود شريحة كبيرة من المسنّين، وهو أمر من شأنه أن يقوي الروابط بين الأجيال، ويعدّل من المفاهيم والأفكار المتعلقة بالاسترتيجيات المنظمة لمستقبل الدول والمجتمعات والأفراد.

العمر المديد هو ما يتمناه الأصدقاء والمحبون لبعضهم بعضا منذ وجود الإنسان على وجه البسيطة، وهو الخاتمة التي تنتهي بها كل القصص السعيدة، فلماذا يضيق الإنسان الخناق على نفسه، ويتوجس من أمر يتمناه في قرارة ذاته بحكم الغريزة وحب البقاء.

الذين يسارعون إلى طرح الأسئلة ذات الطابع الأخلاقي والديني إزاء كل تبشير بإنجاز علمي مثل مسألة إطالة العمر، هم في غالبيتهم ينظرون إلى الأمر وفق حسابات جامدة ورؤى ضيقة، ولم يكلفوا أنفسهم طرح السؤال بشكل عكسي أي كيف كانت هذه الثوابت الأخلاقية والدينية ما قبل الثورة العلمية والرقمية، وبمعدلات عمرية متدنية في القرون الماضية؟ هل تخيلوا حال راكب في الأربعين من عمره على ظهر دابة، يقطع طريقا غير آمنة بين بلادي الشام والمغرب ليخبر عن أمر عسكري أو يستفسر عن مسألة فقهية أو يحمل كتابا علميا؟

قضايا إنسانية واجتماعية واقتصادية كثيرة تعدّل نفسها وتضبط توقيتها وفق معدّل العمر في كل زمان ومكان، فشركات التأمين عن مرض والحياة لن تبقى على حالها بالتأكيد حين يبلغ متوسط العمر مئة عام، وكذلك سن الزواج والتقاعد، بالإضافة إلى سلوكيات بشرية أخر سوف تتغير بالتأكيد مثل علاقة الإنسان بالدين والتدين.

أما مسألة الولادات فسوف تتبدّل حتما حينما يرتفع معدّل العمر، ويقع التحكم بالجينات والمورثات. كما أن النجاح في محاربة الشيخوخة سوف يعيد إلى الواجهة قضايا كثيرة تتعلق بسوق العمل والاكتظاظ السكاني الذي سوف يتغير هرمه بشكل جذري، لكنه سوف يحل مشاكل كثيرة، ينشط اليد العاملة، يحد من حالات الاكتئاب ويزيد من جرعة السعادة والاحتفاء بالحياة.

العمر المديد لا يعني الأبدية بالتأكيد، ولا ينبغي أن يوحي بأن العلم الآن يشاكس على محظورات دينية وغيرها، لكنه أمر يكافئ به العلم نفسه، فيعطي لذاته فرصة البحث فيما هو أكثر نفعا للبشرية ثم أن البشرية حين تكون مسنة دون أمراض شيخوخة سوف تستعيد الحكمة التي تخلقها الرعونة والتسرع وسوء التقدير وغيرها من أمراض الأغرار وعديمي التجربة.

العلماء يعتقدون أن الطب قريب من حل مشكلة أمراض الشيخوخة، وجعل الإنسان يتمتع بعمر طويل دون أن تتهدده الأمراض فتنغص عليه خريف العمر الذي ينبغي أن يعيشه بسكون وطمأنينة. وفي هذا الصدد، يقول أحد موظفي العلوم في مؤسسة سينس للبحوث، ” لن يكون هناك حدود للمدة التي يمكن أن يعيشها الناس عندما نتمكن من إخضاع الشيخوخة والسيطرة عليها”.

ويضيف الموظف في المؤسسة التي تمتلك مختبرات في وادي السيليكون، بولاية كاليفورنيا الأميركية “سيظل الناس يموتون، ما زالت هناك شاحنات تصدمهم، ولكن في الحقيقة سوف يعيش الناس في المتوسط لفترة أطول بكثير، ولن يموتوا إلا عند حدوث بعض الأمور الغريبة مثل كويكب يضرب الأرض”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى