قراءة في كتاب “الخذلان” لغاندي النعانعة
يكاد الكاتب غاندي النعانعة من خلال كتابه “الخذلان” ،دار الآن ناشرون وموزعون ، أن يقترب من النوع الأسمى من الكتابة ليتمكن بعد ذلك من تفكيك أسرارها ، إنه وفي أثناء الترحل بين نصوصه التي قد لا أعتبرها منفصلة عن بعضها البعض بقدر ما أعتبرها كلا واحدا ،يختزل الكاتب تجربة إنسانية واعية ، يطلقها عبر بوح لا يستطاق الإفلات من نفحات حكمته ورجاحة مضامينه.
ومنطلقا من الأمس حيث الولادة الأولى واندلاع المصير ،فإن الكاتب لم يدعه يقضم ما تبقى له من حياة ،فبدا وكأنه انتصر على الماضي بالكتابة ،و كما لو وأنه قد أبرم اتفاقا دائما من أجل التصالح مع الحياة ،حيث يقول لنا: “وبعدما أدركت أن كل يوم أعيشه هو موعد أخر لتأجيل الحياة، وليس كما كنت أظن بأنه تأجيل لموت ما يحل فجأة بنا ،عندها لم أجد ما أعمر به هذا الخواء، ولكنني أصبحت اليوم أدرك أن كل لحظة قادمة ما هي إلا تأجيل لكليهما ،وما هذا الذي أقوم به إلا ممارسات حائرة في وسط زمان ومكان يعلمان ما يحل بي عندما سأشتاق النهوض مرة أخرى”.
ونحن إذ نطوف بما قد يكون حلما أو نبوءة لكاتب “الخذلان” نعاين الخبرة الإنسانية الواسعة بجميع ما اكتسبته وما خسرته منذ الأزل ، لنتسأل: كيف استطاع هذا الإنسان أن يتحمل كل هذا الثقل ، من غير ما أنين مسموع ، ولا طريق تقود إلى عودة قريبة من المجهول؟.
في هذا الكتاب نجد الأجناس الأبدية قد اختلطت وتداخلت حتى وصلت إلى حدودها من اللبس الذي يجذب الإنسان نحو قضيته الأساس ،نحو ذاته المضيعة ، و نرى بأن الكاتب قد انتقد العالم و أطاح بما أصبحنا نتفق على تسميته المعرفة ، و تجول في تخوم الجسد يلاحق أماكنه التي أقفرت و انقلبت إلى أشباح و أطياف لا تكفي للحياة ،مما دفعه الى مصارحة الجميع بشكوكه التي لا تنتهي ليبوح لنا بما يقلقه:
الظن ينجلي في اغترابي
والوصف مثل ظلك
ناجز
وشاهد
على ما يمر
ولا بد أنني سأعد ” الخذلان ” هنا كولادة متجددة غير منقطعة ولا منبتة ، فيها من النمو والتقدم والتورد ما لا تحتويه حضارة الإنسان الزائفة ، فعلى ما يبدو أن “الخذلان ” هنا ليس إلا نقطة من أجل الثورة على الذات ، و من ثم توجيه الجهد والإرادة الإنسانية نحو مصيرها من غير التفات ،على اعتبار أن الموت والحياة متساويان في الوجود كذلك في الغياب .
في المحصلة، لقد استطاع الكاتب أن يعري سلطة الأشياء وسلطة الزمن وكذلك المكان بكل ما أوتي من إرادة ،إننا نلتمس ذلك ونحن ننزلق معه إلى مكنونات لغته الشيقة ، والتي كذلك ينكر الكاتب عليها سلطتها التي تمارسها على الإنسان ، ” فالخذلان” هو حوار داخلي فعال ضد كل ما يضطهد به الإنسان نفسه ، وهو حوار مع الأخر لوضع أخر الحدود وترسيمها بشكل يتيح للإرادة أن تستيقظ مرة أخرى ، وتتجاوز المحنة الوجودية للتوحد في جريانها مع ساقية الكون، كما يشير الكاتب .
وحيث يتطرق الكاتب عبر هذه النصوص إلى الكثير الكثير مما قد يشعر به الإنسان و يعاصره، إلا انه يحاول كثيرا مشاركة ألآمه ومواجعه مع الأشياء والمسميات ،إننا في الحقيقة نتعامل مع نص واحد لا يمكن تجزئته أو تقسيمه إلى أبواب، يحتوي على الكثير من الشاعرية ورهافة الإحساس وعصارة الموهبة الإنسانية في تقييد الزمن والاحتفال بالانتصار