رواية (في حضرة باب الجابية): مخاطر التعاطي مع المكان وشخصياته!

دمشق ــ خاص بوابة الشرق الأوسط الجديدة

خاص يكشف المكان في الحدث الروائي عن حسن اختيار الكاتب للوعاء الذي تتجمع فيه الأحداث والتي يبني عليها الكاتب روايته وتدور من خلالها حيوات شخصياته والصراعات التي تدور خلالها..

وباب الجابية، كمكان دمشقي، من أخطر الأمكنة التي يمكن أن يغامر الروائيون في الكتابة عنها، وقد ترك الكاتب العربي الكبير نجيب محفوظ هيبة خاصة لمسألة التعاطي مع مكان مشهور يكون فيه المكان بطلا، فيولد أبطالا من الحياة، وقد فعل ذلك في خان الخليلي والسكرية وبين القصرين وقصر الشوق وزقاق المدق وغيرها من الأعمال الخالدة، فهل يمكن تبسيط المعادلة في مكان دمشقي كمنطقة (باب الجابية) التي تتحدث عنها الرواية؟!

الكاتب السوري أيمن الحسن دخل في عمق المخاطرة السردية عندما انتقى (باب الجابية) ليكتب عنه روايته الجميلة: (في حضرة باب الجابية ــ طفل البسطة) ، وهو بذلك يحاول التأسيس لرواية معاصرة للمكان الشامي بشكل عام ينبض بالحياة وصراعاتها ومآسيها، وخاصة أن الدراما التلفزيونية اجترت الفكرة كثيراً ولم تقدمها في صورة قريبة مما تستحق إلا في الأعمال التلفزيونية الرائدة التي لجأ بعضُها إلى تحديد المكان وجعله البعضُ الآخر عاما.

من منّا يعرف باب الجابية على حقيقته، ومن من كتابنا المعاصرين يمكن له أن يبحث عن نبض هذا المكان في حساسيته الشائكة التي تفتح المجال لأحاديث كثيرة تتعلق بالتاريخ والبيئة والصراعات الاجتماعية وخلطة السكان التي نادرا ما تؤسس لوحدة متكاملة وناجحة في النص!

تقع منطقة (باب الجابية) عند تخوم مدينة دمشق القديمة، وباب الجابية هو أحد أبواب دمشق السبعة الشهيرة[1]، ومنه يمكنك أن تذهب إلى الطريق المستقيم الذي تحدثت عنه الأناجيل والذي يعتبر جزءا من حياة القديس بولس، ومنه يمكنك أن تذهب إلى مقابر آل البيت وبلال الحبشي والكندي وشكري القوتلي ونزار قباني،  وقبل أن تصل إليه من جهة الشرق يمكنك أن ترى قلعة دمشق من جهة اليسار وطريقا صغيرا يوصلك إلى قبر صلاح الدين الأيوبي الذي جاوره قبل سنوات قبر الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، وعلى جهة اليسار أيضا يمكنك أن تعرج على سوق الحميدية والجامع الأموي، أما في جهة اليمين فيصادفك القصر العدلي وشارع النصر الذي يأخذك إلى محطة الحجاز .. وثمة أسواق تتقاطع في محيط باب الجابية لاتلبث أن تأخذك إلى مناطق أخرى تأخذ أهميتها في صلب الحديث عن الحياة والناس والتاريخ .

أما ساحة باب الجابية التي توالدت أحداث رواية الكاتب أيمن الحسن فيها، فتشبه حلقة معدنية ترتبط فيها مجموعة مفاتيح وعليك أن تتعرف في كل مفتاح على تفصيل ما يتعلق بالمكان أو بواحدة من شخصيات هذا المكان.

وفي تكثيف ساحر لوصف باب الجابية نقرأ هذه العبارة: ” يتدفق نهر بشري داكن، يلهث وراء لقمة العيش”[2] وهي في الواقع صورتها القديمة والحالية، ويمكنك تصوّرْ المساحة التي يفردها سيل العلاقات والأحداث القادم من وراء هذا النهر البشري والآلية التي لجأ الكاتب من خلالها لتقديها على مائدة تحفته السردية، ومع ذلك يتماسك النص، ويقود الأحداث والشخصيات بطريقة تنم عن معرفة المكان في أدق تفاصيله، إلى الدرجة التي يمكن القول فيها إن هذا المكان هو جغرافية ذاكرة الكاتب التي يحرك شخصيات البساطة والطيب والقهر في مرجل الصراع الاجتماعي من أجل الحياة، وقد باح هو نفسه بهذا التفصيل في حديث صحفي !

يفتح (طفل البسطة) على المكان من خلال عبور خالد في ذاكرته يعود إلى مرحلة الستينيات من القرن الماضي، ومن خلال هذا العبور يستحضر نماذج على غاية الأهمية يمكن وصفها بأنها واحدة من أهم الشخصيات الروائية في الرواية السورية المعاصرة ، وهذه الشخصيات نمر من أمامها يوميا ولانعرفها، وقد نصطدم بها كتفا بكتف في هذا المكان أو غيره من الأماكن العامة الشبيهة. يؤطرها الكاتب بفن أخاذ، فتتحول إلى نوع من التطريز على يد باب الجابية وهو ينبض في جسده وروحه حتى الآن .

أي أن رواية (في حضرة باب الجابية) هي رواية القاع الاجتماعي وهو يعبر عن نفسه بمهارة السرد الروائي، ففي ذلك القاع نتعرف على نماذج من شرائح اجتماعية كثيرا ماغبت عن الأدب والفن في حياتنا . .

و(طفل البسطة) يعمل مع أبيه (أبو طنوس)، وأبو طنوس هذا هو بائع القهوة والشاي الذي من السهل أن يربطك بكل شخصيات وتفاصيل المكان ، ويتميز بأنه عاشق لأغنيات فريد الأطرش التي تدخل الروح لكل متذوق من أي شريحة أو طبقة كان .

ومن خلال (طفل البسطة) و(أبو طنوس) و(باب الجابية) يفتح الكاتب أيمن الحسن العدسة على مجموعة من العمال العاطلين عن العمل كانوا ولازالوا يجلسون على بعض أرصفة مدينة دمشق، ومنها الرصيف المجاور لجامع السنانية في باب الجابية ينتظرون زبونا عابرا يريد عاملا أو أكثر لاستخدمه بأمر ما ، وفي تفاصيل حياة هؤلاء صور من حالات القهر الاجتماعي!

والغريب أن (حضرة باب الجابية) تكشف لنا عن انتماء أصيل لهذه الشريحة من الناس بالوطن ومعاناته، فترصدها الرواية بحس عال ينبغي التأمل فيه، وخاصة أن زخم الأحداث في الزمن الروائي هنا يعاصر هزيمة حزيران عام 1967 يوم خسر العرب الحرب والأراضي المحتلة وعمّت المأساة الأم سوادها على العرب بعدما كانت المأساة في فلسطين!

وعندما سئل الكاتب أيمن الحسن عن هؤلاء، لم يخف هويته، بل قال[3] “انتميتُ إليهم, وهم لا ينالون إلَّا البؤس والتعب المضني، مع أنَّهم يقومون بالأعمال الصعبة: يبنون البيوت، ويؤثِّثونها للعيش الرغيد، فهم جذر الحياة في المدينة (…) لهذا، فأنا وفيٌّ لهؤلاء العمَّال الَّذين عايشتهم، وأتبنَّى نظرتهم المشروعة بأن يعيشوا عيشة كريمة بلا بؤس ولا قهر، ولهذا أيضاً عشت مع إخوتي النازحين حلمهم في أن يعودوا إلى أراضيهم التي اغتصبها الصهاينة خلال عدوان حزيران الغادر سنة 1967.‏.


[1]   يروي المؤرخ حسن البدري في كتابه (نزهة الإمام في محاسن الشام) وصفاً لأبواب دمشق القديمة وعلاقتها بالكواكب فيقول:

كانت صور الكواكب على هذه الأبواب ، زحل على باب كيسان ، والشمس على الباب الشرقي ، والزهرة على باب توما ، والقمر على باب الجنيق ، وعطارد على باب الفراديس ، وصورة المشتري على باب الجابية ، أما المريخ فعلى الباب الصغير .

[2]  رواية ( في حضرة باب الجابية ــ طفل البسطة) ــ الكاتب أيمن الحسن ــ الهيئة العامة السورية للكتاب  ــ دمشق ــ 2018 ــ  ص 45

[3]  صحيفة الثورة ــ  25 /9/2018

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى