نزيف ينذر بموت بطيء
أخطر ما يستنزف البلدان النامية هو هجرة الأدمغة والكفاءات العلمية، ذلك أن هذه الآفة من شأنها أن تزيد من الهوة بين الشمال الغني والجنوب الفقير، وتصبح البلدان المصدرة للكفاءات تدور في فلك دائرة مغلقة فتستقطع من ثرواتها البشرية لتمنحها للبلدان المستقطبة لهذه الكفاءات.
يمكن تشبيه الكفاءات المهاجرة بنبته الطرخون التي تسقيها وتهتم بها في حديقة منزلك فتنمو وتثمر لدى حديقة جارك، لذلك نعت المخيال الشعبي هذا النبات ب ” الخائن”.
إن هجرة الكفاءات هي، بحق، ضرب من الخيانة التي لا يمكن السكوت عليها، وينبغي تحميل المسؤولية لجميع الأطراف المتسببة في هذه الظاهرة، ذلك أنها بمثابة الوباء المتفشي، ويصعب إيقافه ما لم تعالج جميع أسبابه.
كل الدراسات التي أُعدت حول هذا الموضوع في منطقتي شمال أفريقيا والشرق الأوسط، دقت ناقوس الخطر. وتعتبر هجرة الأدمغة أكبر التحديات وأهم المشاكل التي يجب أن يُوجد لها حل مناسب وناجع، لكن عكس ذلك تمامًا زادت نسبة هجرة الأدمغة بشكل يؤكد على أنه لا قرارات حازمة اتخذت لمكافحة هذه الظاهرة الخطيرة.
عوامل كثيرة طاردة للعقول العربية، ولا ينبغي التركيز فقط على الأسباب الاقتصادية والاجتماعية، فالعوامل السياسية تعد في نظر الدارسين والمحللين، أساسية وفاعلة في هذه الظاهرة، ذلك أن منظومات فاسدة كثيرة في العالم العربي قد اتخذت إجراءات قمعية ضد العلماء والمفكرين والأكاديميين والمثقفين، من أجل طردهم تحت مظلة الهجرة الطوعية.
وتعتبر المناخات الديمقراطية من أهم العوامل المشجعة على البقاء والعمل داخل البلاد لما توفره من إحساس بالأمان والانتماء للمجموعة الوطنية، وما يتطلبه ذلك من روح العطاء والتضحية رغم الإغراءات المالية في الخارج، لكن حالات الفساد والمحسوبيات من شأنها أن لا تشجع على العيش والاستثمار داخل البلاد.
وتدل هجرة الكفاءات على عدم قدرة الدولة في استيعاب أبنائها وهو ما جعل بلدا عربيا مثل تونس، تحتل المرتبة 83 ضمن الترتيب العام لمؤشر القدرات التنافسية الشاملة الذي يصنف البلدان حسب قدراتها على تطوير الكفاءات والاحتفاظ بها وجذبها، وذلك من بين 119 دولة شملها الترتيب، لتسجل بذلك تراجعا بـ6 مراتب مقارنة بسنة 2017 حيث كانت تحتل المرتبة 77
وفي تصنيف مع بداية 2018، حلت تونس في المرتبة 96 على مستوى جذب الكفاءات وفي المرتبة 103 و94 على التوالي على مستوى تنمية الكفاءات والقدرات وتطور المهارات، في حين احتلت المرتبة 66 على مستوى تعزيز الانتماء لدى الكفاءات.
وقال عضو جمعية المحترفين في الموارد البشرية في تونس، سعيد زواغي، ضمن مداخلة بعنوان ” تسيير المهارات “، إن تدفقات الهجرة التي شهدتها تونس ومنها هجرة 4 آلاف أستاذ جامعي، و45 بالمائة من بين 400 طبيب جديد سجلوا بعمادة الأطباء سنة 2017، ليبلغ عدد المغادرون حوالي 94 ألف كفاءة خلال ست سنوات، تجد تفسيرا لها في نتائج ترتيب تونس ضمن الترتيب العام لمؤشر القدرات التنافسية الشاملة.
وبين الزواغي أن الدول الخمس الأولى التي احتلت رأس الترتيب ضمن المؤشر المذكور، الذي تم إطلاقه سنة 2013 وهي سويسرا وسنغافورة والولايات المتحدة والنرويج والسويد، نجحت في إرساء نظم تربوية تستجيب لحاجيات السوق من خلال تطوير الكفاءات التقنية والتعاونية، وفي تطوير سياسات تشغيلية مرنة تضمن التغطية الاجتماعية، بالإضافة إلى انخراط الأطراف المتدخلة من حكومة ومؤسسات ونظم تربوية.
هذا النزوح المستمر للعلماء والخبرات من المنطقة العربية سوف يوسع الهوة الحضارية والعلمية بين العرب والدول الغربية أكثر فأكثر. ويؤدي إلى تراجع مستويات التنمية في المنطقة العربية، واستمرار استيراد الخبرات الأجنبية إلى البلدان العربية لسد النقص الحاصل، والتكلفة الاقتصادية المالية المرتفعة التي تُسدد لهم.
كما أن هجرة العقول العربية سوف تتسبب كذلك في انخفاض مستويات التعليم الجامعي نتيجة النقص في المؤهلات الأكاديمية والبحثية. وتؤثر في قدرة العرب على الربط بين المستويات التعليمية والحالة الثقافية من جهة وبين متطلبات خطط التنمية من جهة أخرى.
ما من منافع تصاحب هجرة الكفاءات في العالم العربي سوى الخسائر، وعلى جميع الأصعدة، الفردية منها والجماعية، ذلك أن هذه الهجرات ليست طوعية، ولا علاقة لها بذلك الانفتاح والتلاقح الثقافي بين الشعوب بل هي علاقة ارتهان الضعيف المستكين للقوي المستبد.
الذرائع التي يلجأ إليها الكثيرون لتبرير هجرة الأدمغة كلها واهية ولا تستند إلى منطق مقنع، وينبغي للحكومات العربية أن تفكر في استراتيجيات فعالة لوقف هذا النزيف المستمر في الثروات البشرية. والمعالجة لا يمكن أن تكون إلا معالجة شاملة ودائمة تبدأ بالبحث عن الأسباب من أجل استنباط الحلول، وما عدا ذلك فإن بلادا عربية كثيرة مهددة بالخواء والانحدار نحو أسفل الهرم التنموي.