من الدمار المؤكَّد إلى البقاء المؤكَّد
“ما زال هدف القضاء على الفقر وتلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية يمثل تحديا للأفراد والمجتمعات. الواقع أنه، على الرغم من جميع الجهود الفردية، والوطنية، والدولية، لا تزال الغالبية العظمى من الناس تواجه الجوع، والمرض، والموت كنتيجة يومية تقريبا لفقرهم. ولم تحل كل إنجازاتنا التكنولوجية وسيطرتنا على الأشياء المادية دون موت مخلوقات بشرية بسبب سوء التغذية في مكان ما على سطح هذا الكوكب”، هذه الفقرة مقتبسة من تقرير أعدته اللجنة المستقلة المعنية بالقضايا الإنسانية الدولية، بعنوان “هل تكسب الإنسانية معركتها؟“، كان قد عُرض على الأمم المتحدة عام 1988.
يمضي التقرير قائلا “ربما أنها المرة الأولى في التاريخ البشري، التي لا يكون فيها ملايين الناس في كافة أنحاء العالم غير متأكدين من مستقبلهم، أو قلقين على مستقبل أطفالهم وحسب، بل ينتابهم قلق عميق حول مستقبل الكوكب كله. ينبع قلقهم هذا من حقيقة أنه بات لدى الإنسان الآن القدرة على القضاء على الحياة البشرية على هذا الكوكب عدة مرات. وقد صعّدت القوى العظمى، خلال السنوات الأخيرة، بفضل مؤسساتها الصناعية العسكرية، من حدة منافستها لتصل إلى مستويات بدأ الخوف فيها يطغى على المنطق والعقل”.
يوما بعد يوم تطالعنا الأخبار عن أن تفشي الكوليرا في اليمن هو الأسوأ في العالم، وتنبئنا بتوقع حصول 10 آلاف إصابة أسبوعيا وفق منظمة الصحة العالمية. وقد أطلقت الجمعية العامة للأمم المتحدة تحذيرا بشأن أزمة الجوع اليمنية، حيث تشير تقارير الأمم المتحدة للطفولة إلى أن 1.8 مليون طفل يعانون من سوء التغذية، وأن نحواً من 400 ألف منهم معرضون لسوء تغذية حاد. كذلك تحذر التقارير من أن تكلفة الغذاء قد ارتفعت بمقدار 35 بالمئة خلال الأشهر الإثنى عشر الأخيرة، وإذا استمرت هذه التوجهات فسوف يصل سعر صرف الريال اليمني إلى 1000 ريال مقابل الدولار الأميركي، ما سوف يعرض 12 مليون شخص إلى مخاطر الجوع.
هذا الوباء الذي ضرب اليمن -وهو بلد مزقته حرب عرّضت 5.2 مليون طفل إلى خطر المجاعة، وشرّدت الملايين من سكانه، ودمرت الكثير من بناه التحتية- قد يتسبب في واحد من أكبر أوبئة الكوليرا يضرب بلدا بمفرده في التاريخ الحديث.
لربما تخلق الأمراض الوبائية واسعة النطاق، مثل الكوليرا، بيئة من الخوف والريبة يمكن أن تتمخّض عن تآكل حاد في نسيج المجتمع. وقد تقود التداعيات المتعلقة بالخوف، خلال انتشار الوباء، إلى انهيار النظام الاجتماعي التقليدي.
وإذ تُعقد المؤتمرات الواحد تلو الآخر، أتساءل هل يتوقف الأمر؟ كيف يمكننا أن نواصل سباق التسلح الذي لا يهدد وجودنا المادي فحسب، بل أيضا آفاق التنمية، خاصةً التنمية الأكثر توازنا واستدامة، والتي نقرّ على نطاق واسع بأنها ضرورية لتوازن واستدامة الحياة الإنسانية نفسها؟
نواجه، نحن في منطقة المشرق، أزمة وشيكة في القدرة على التحمّل. يجب علينا أن نمنع انهيار المجتمعات بسبب ندرة الطاقة، وأن نواجه تغيّر المناخ، وأن ندمج تلك القضايا الملحّة في أي مبادرة تتعلق بالتعاون. وإن كان ثمة بارقة أمل في أن نتحول من “الدمار المؤكد المتبادل” إلى “البقاء المؤكد المتبادل”، فإنني آمل ألاّ تقيّدنا، على المستوى المفاهيمي، جوانب القصور في الحتمية الثقافية.
دعونا نعمل يدا بيد على إعادة تشكيل الواقع الإنساني، وإعادة تعريف رفاهية الإنسان باستخدام العلوم الحديثة للحفاظ على نظامنا البيئي، وتخفيف الضغط على مواردنا الطبيعية. دعونا نستخدم التكنولوجيات التي لدينا لمعالجة الأمراض، ودعم الاقتصاد الأخضر، ومحاربة ندرة الغذاء والمأوى، خاصةً بالنسبة للمهمشين والضعفاء. لكن الأهم من كل ذلك، ينبغي علينا أن نعترف بأنه كان يمكن لمشاكل العالم الإنسانية أن تكون أقل حدة لو احتُرمت حقوق الإنسان الأساسية.
صحيفة العرب اللندنية