“ثَلاثة جياد” .. بساطة الحياة في مرآة السرد
يستمدُ العمل الروائي مؤداه من تفاصيل الحياة وما يدورُ في مُعْتركها من الصراع. كما يغورُ في العالم الداخلي للإنسان راصداً ما تفورُ فيه من رغبات جياشة إذ قد يجدُ بعضها الطريق للارتواء وبعْضها الآخرُ يظلُ قاراً في زوايا معتمة، لذلك يتقاطعُ فنُ الرواية مع علم النفس والسوسيولوجيا كون هذا الجنس الأدبي لا يحومُ حول مسائل وقضايا ذاتية فحسب، بل إنَّ دوائره من السعة والشمول بحيثُ تغطي كل أنماط الحياة ويتصيد الجنس الروائي ما يعتملُ في دواخل الإنسان، من هنا تلمسُ ما يميزُ الرواية عن غيرها من الأجناس الأدبية، إذ يبدو هذا الفنُ بمثابة منصهر لموضوعات كافة، أضف إلى ذلك ما يتوفر بالنسبة للرواية من أشكال وأساليب متنوعة لصياغة عالمها، لذا يكتسبُ الشكلُ أهمية كبيرة طالما هو ما يمنحُ الكاتب خصوصياته.
يتصفُ عالم الكاتب الإيطالي آرى دي لوكا بالبساطة والشفافية في تسلسل السرد، إذ يهتم صاحب “باسم الأُم” بمراقبة دقائق الحياة اليومية ويختار شخصياته من صميم الواقع كما يُفضِلُ الابتعادَ عن مسالك معقدة في التعبير، وبذلك ترى تناغماً بين اللغة ومستويات الوعي لدى شخصياته، يُذكر أن هذا لا يعيقً دس جمل وعبارات نابضة بالحكمة في سياق سرده الانسيابي.
لا يُغادرُ لوكا في جُل رواياته العوالم التي خبرها واقعياً، حيثُ يتناول في «جبل الرب» حياة مجموعة أشخاص يشتغلون في مهن مُختلفة. كذلك في روايته الموسومة بـ “ثلاثة جياد” يروي حياة شخصية يشتغلُ بستانياً فالأخيرُ يهوى قراءة الكتب المُستعملة ويبرزُ ميزة هذا النوع من الكُتب.
تتصدرُ الروايةَ مقدمة تكشفُ موقع الأرجنتين جغرافيا، ناهيك عن تزويد المتلقي بأعداد المهاجرين من عام 1939 إلى هذا البلد ومن ثُمَّ يُشير الكاتبُ إلى وجود معلومات واردة في المقدمة وما يتوالى من أحداث في مضامين عمله الروائي.
المرجعية الواقعية
يميلُ آرى دي لوكا إلى انتقاء شخصياته من البيئات التي يرتادها ما يسمى بطبقة الشغيلة، المصانع والموانئ والأماكن العامة، وهذا يأتي من إدراك الكاتب لما يمثله هؤلاء من أوجه الحياة وما يحملونه من هموم معيشية. يتوارى الراوي وراء ضمير المتكلم، أي يتبع سرداً ذاتياً لعرض القصة التي يظلُ مشاركاً في تركيبتها.
يروي الساردُ وقائع حياته وقصة هروبه من الأرجنتين وما ساعده في ذلك هو امتلاكه لجواز سفر إيطالي، إذ اعتقلت العصابات حبيبته دوفورا التي تعرف عليها في الجبل خلال رياضة التسلق. بجانب ذلك يُقدمُ تفاصيل رحلاته من قارة إلى أخرى مروراً بِجُزر وبلدان كثيرة. إذ يستدعي ملامح أشخاص من شتى الأجناس التقى بهم ورافقهم في مشواره. يتوقف عند سليم الذي يأخذُ منه أزهار الميموزا لبيعها رافضاً أن يأخذ منه أي مقابل، بل يطلب منه أن يأتي إليه بزجاجة من النبيذ واصفا صاحبَه بـ “مندوب الريح” فهو يقوم بنثر الورود في كل الأمكنة، يحكي سليمُ من جانبه عن نمط الحياة في بلده واندماج الناس مع الطبيعة بحيث لا يفصلها عنهم أي حاجز مادي، ثُمَّ ينتقل الراوي إلى وصف وجه آخر من الحياة داخل السُفن وما يقع فيها من المناوشات، إذ يلوذُ به صبي كريولي راجياً منه اتقاء شر أحد البحارة.
زخم الذكريات
تحتفظُ المرأة في روايات آري دي لوكا بدور مميز، إذ هي تظهر تارة في صورة المُلهمة وتارة أخرى تفكُ عقدة الرجال مُشَجعةَ إياهم لكشف مُغامراتهم وأسرارهم، كما يستعيدون بجوار الأُنثى ما عاشوه من علاقات حميمية، إذ يتبين هذا الأمر في العلاقة القائمة بين الراوي وليلى، فالأخيرة كانت طبيبة أسنان غير أنها لم تستمر في هذه المهنة وتوجهت إلى عالم تستبطنُ فيه الجانب المحجوب لدى الإنسان.
لا يكون لقاء ليلى بالراوي عابراً بل الأخير يعترف بحبه لها. مع أن ليلى لا تُصدق أن الرجال يحبون امرأة مثلها. غير أن التواصل يدوم بين الاثنين تحيط بهما أجواء رومانسية، فالبستاني يرسمُ بكلمات مُعبرة ما تتمتع به تلك المرأة من صفات جمالية بحيثُ تشعر بأنها جمعت في شخصيتها ملامح كل النساء اللاتي مررنَ بحياته، لذلك من المُسْتَغرب أن تكون ليلى آخر امرأة في حياته، ما يدفعُ المرأةُ العاشقة إلى التمسك بالبستاني على الرغم من وجود فارق السن بينهما هو التشابه الذي تراه ليلى بين ملامح البستاني وأبيها، إضافة إلى السلوكيات التي إذا امتلكها الرجلُ يكون مقنعا للمرأة.
هكذا يُفَرد الراوي صفحات حياته للمرأة التي أغرم بها في الخمسين من عمره. فهي إن فارقته ستعود إليه كما أنَّ البستاني في غيابها يستعيدُ ذكرى اللحظات الحميمة التي قضاها بجانبها، فيُسميها بالأميرة كونها تجمع الجغرافيا في نسبها فهي تنتمي إلى روسيا وإسكوتلندا من جهة الأم وإلى صقلية وليغوريا من جهة الأب، فهذا الجانب في شخصية ليلى يلبي رغبة البستاني الذي قد تعود على الترحال ومشاهدة أمكنة مُتَعددة.
فضلاً عن النفس الرومانسي المبثوث في هذا العمل يوجد اهتمام بالطبيعة كثيراً ما تُشاهد من منظور الراوي تحولات طبيعية، كما تنتشرُ أسماء الأزهار والأشجار في سياق الجمل والأقوال السردية. ومن ثُم يشرحُ الراوي مأساة تحول الإنسان إلى قاتل فالشعور بالذنب لا يُفارقه ويأتي هذا الكلامُ في إطار الحوار المُتبادل بينهما إذ هناك من يطارد ليلى ويعتبرُ بقاءها على قيد الحياة خطراً عليه، هنا يربطُ القارئ بين هذا الخطر الذي يحف بليلى ومحاولة الراوي لقتل رجلِ. فهو يستعدُ للذهاب إلى مكان إقامة شخص مجهول الهوية بالنسبة له. لكن ما أن يصل إلى هذه المنطقة حتى يكتشف بأنَّ ثمة زنجياً سبقه في قتل الشخص الذي هو أراد قتله.
هنا يدعك الراوي من دون أن يعطيك مزيداً عن القاتل إلى أن ينطق في الصفحة الأخيرة بجملة تدفع بك إلى الشك بأن القاتل ما هو إلا سليم لأن الأخير يحمل باقات الزهور. رغم البساطة في السرد فإن لوكا يترك فجوات للقارئ فهو ينحازُ في أعماله إلى العُمال إذ تجدُ تلميحات ذكية تكشف عن معاناتهم. هذا العمل يتضمن ثيمات أدب الرحلة وأدب الجريمة بالإضافة إلى ما ينطبع فيه من الرومانسية.
ميدل إيست أونلاين