تشرشل وديغول: جيو-سياسة الحرية

ترجمة: إبراهيم عبد الله العلو

يحب الساسة تصوّر أنفسهم مثل وينستون تشرشل نحو عام 1940. وهو دور يرضي اللاعبين: الشخصية البطولية التي اخترقت تعقيدات وغموض السياسات الخارجية والداخلية لتكشف عن معركة بين الخير والشر. ولكي نكسب هذه المعركة يجب أن نفعل كل ما يقوله تشرشل الجديد. وإذا لم نوافق نكون هيتلر أو شامبيرلين آخر.

ساهم هذا التخيّل ببعض أسوأ  المغامرات الأجنبية خلال العقود الماضية. كان تشرشل على صواب عام 1940 لإنه حدد الفعل المناسب في الظروف الملائمة. وكان عمله يتم بتأمل. ولكي نتعلم التعقل نحتاج لدراسة سير رجال الدول وكيفية فهمهم وحكمهم على العالم عبر الظروف المتغيرة.

هل سيفعل كتاب ويل موريسي “تشرشل وديغول: جيوسياسية الحرية” ذلك بالضبط مع حياة وينستون تشرشل وتشارلز ديغول. سعى تشرشل وديغول وهما يواجهان أسوأ طغيان وعدوان خلال القرن العشرين المتمثل بالحربين العالميتين والحرب الباردة للحفاظ على حرية شعبيهما.

ويظهر موريسي عبر دراسة كتاباتهم وخطبهم كيفية حكمهم على الظروف المتباينة والتحديات القائمة للدفاع عن استقلالية الحكم.

قدم كل منهما لبلده “أجندة العظمة” وحاجج تشرشل بأن عظمة بريطانيا تكمن في تشجيع التجارة العالمية عبر إمبراطوريتها والعالم. تعتمد عظمة بريطانيا من الناحية العسكرية على أسطولها البحري ومن الناحية الديبلوماسية على تقوية التحالفات مع الشعوب الأخرى الناطقة بالإنكيليزية. كانت ديموقراطية بريطانيا البرلمانية أفضل نظام مهيأ لتحقيق قيمة الحكم الذاتي لبريطانيا ولمحاربة والطغيان والعسكرة في الخارج.

إشترك ديغول مع تشرشل في التزامه بالحكم الذاتي، ولكنه أعاد تشكيله ليوافق الإطار الفرنسي. وبعكس المملكة المتحدة ضمت سياسات فرنسا أطرافاً عديدة – الملكيين والليبراليين والبونابارتيين والشيوعيين- ولكل منهم نظرته المختلفة بحدة للنظام.

في “الفيدرالي 10” ناقش بوبليوس أن منح أطراف كثيرة الفرصة لتحقيق القوة السياسية سوف يضعف من إحتمالية إساءة استخدام السلطة من قبل طرف محدد. ولكن بما أن أطراف فرنسا عبّرت عن رفض عميق للنظام إعتقد ديغول أن منحهم قوة أكبر سوف يفضي إلى الشلل السياسي.

اشتركت فرنسا، بعكس الولايات المتحدة وبريطانيا، بحدود برية مع أقوى أعدائها. ولمقاومة ذلك التهديد – وتهديد الأمة المتفككة – شجّع ديغول الجمهورية ذات الزعيم التنفيذي القوي. ولكي يحكم بفعالية يجب أن يسمو ذلك الزعيم فوق أطراف الحزب ويحظى بدعم الشعب. سعى ديغول من خلال تفسير فضيلة الحداثة كمعيار لإستعادة مفهوم الحنكة السياسية الكلاسيكية والتوازن بين الحكومات الضعيفة (مثل الجمهورية الثالثة) والإستعلائية (مثل نابليون).

يقول موريسي إن الحكم السياسي عرضة “لحيز الضرورة” عبر أربعة معوقات جيوسياسية: قيود المكان المحدد والتقانة ونظام الحكم والنظام السياسي(المجتمع السياسي المفهوم تبعاً لحجم البلد والسكان ودرجة مركزية الحكم). توجب على تشرشل وديغول موازنة هذه العناصر في تشكيل “الإستراتيجيات المتماسكة للدفاع عن الذات” وللحفاظ على الحكم الذاتي عبر ثلاثة حروب مختلفة.

إعتقد تشرشل في تقييمه “للأزمة العالمية” عام 1914 أن التطورات التقنية والدولة المركزية الحديثة جعلت الحرب المحدودة شيئاً من الماضي. وبما أن النخبة السياسية والعسكرية أساءت فهم هذه التغيّرات ولّدت أفعالها فاجعة الحرب الكبرى.

وبالنسبة إلى ديغول تكمن جذور الحرب العالمية الأولى في التأثير الفتاك لفريدريك نيتشه في أوروبا: أوجد نيتشه في ألمانيا تعجرف ينحو نحو الطغيان وفي فرنسا ولّد عدمية توجهت نحو الخنوع.

وإذا فضل الألمان الأقوياء من أتباع نيتشه أولوية القوة كسبت البرلمانية البريطانية الحرب العالمية الأولى عبر تفوق الخطابة وكسب الجمهوريون الفرنسيون عبر أسبقية الأفعال. ولكن لم يحصل تشرشل وديغول على مبتغاهما: تهاوت الجمهورية الثالثة في تسيّسها الذاهل وكانت عصبة الأمم، من دون الدعم الأميركي، عديمة الفعالية. وكما كتب تشرشل: “انتهت القصة عام 1922 مع الإزدهار العالمي.”

لعب تشرشل وديغول، كل على حدة، في العقود التالية دور كاسندرا واتهما مواطنيهما بالفشل في تطبيق دروس الحرب الكبرى. غيّر التحول التكنولوجي القيود التي سعت عبرها فرنسا وبريطانيا نحو الدفاع الذاتي. وأشار تشرشل إلى أن بريطانيا أهملت إيجاد قوة جوية وقال ديغول إن فرنسا أهملت تشكيل وحدات مدرعة متنقلة.

وضمن الفشل السياسي لفرنسا وبريطانيا، عند حدوث الحرب، أن الظروف التي تواجه كلا القوتين كانت مستميتة.

في عام 1940 أُنقذت بريطانيا من الهزيمة بفعل جغرافيتها وإستثمارات اللحظة الأخيرة في التكنولوجيا وزعامة تشرشل.

وبالمقارنة رمت وضعية فرنسا الجيوسياسية المترافقة بعجز نخبتها السياسية في أحلك ساعات تاريخها. ونادراً ما يدرك الأميركيون عمق مأساة فرنسا. ومع نهاية شهر مايو – أيار عام 1940 إتضح أن الألمان سيكتسحون المناطق الفرنسية الحضرية بالكامل. وبدا الإستسلام طريقة مهيبة لإنهاء سفك الدماء. عارض رأس الحكم في بريطانيا الإستسلام ولم يعارضه في فرنسا سوى وزير حكومي فتي- ديغول.

بدا السلم مع ألمانيا مثل الإنصياع لإحتلال أجنبي وأدرك ديغول أن قضية الوجود أصبحت على المحك.

حاول الألمان تحويل فرنسا وجعلها مناصرة ذليلة للجرائم النازية. وفي كتاب “صمت البحر” القصة التقليدية للمقاومة الفرنسية يقول ألماني غازي: “لدينا الفرصة لتدمير فرنسا. ويجب أن تدمر. ليس فقط تدمير قوتها ولكن روحها أيضاً. وخاصة روحها التي تشكّل الخطر الأكبر”.

أنقذ ديغول روح فرنسا عبر نقلها إلى لندن وعقد العزم على المقاومة. وأعطى الفرنسيين رؤية للعظمة الوطنية بعد الحرب مع نظام جمهوري جديد لم يلوّث بشوائب التعامل مع النازيين.

جمعت الحرب العالمية الثانية تشرشل وديغول سوياً ولكن تقييم كل منها لأسباب وعواقب الحرب إختلف عن الآخر. إعتقد تشرشل أن قصة العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين أفسدت النظام العالمي. وسعى إلى إعطاء أولوية للعلاقة البريطانية – الأميركية حتى عندما كان ذلك يعني الخنوع.

وصبّ ديغول اللوم على نظام فرنسا المخطئ الذي حال بينها وبين التثبت بالنظام الأوروبي. وكان تشرشل خلال الحرب الباردة مدافعاً شجاعاً عن الحكم الذاتي ومتعاطفاً مع العولمة الليبيرالية التي شملت الحفاظ على معظم الإمبراطورية البريطانية. وقد شجّع الفيدراليات الإقليمية وتحدث لصالح “الولايات المتحدة الأوروبية”.

أما ديغول فقد كان مشككاً بالعالمية الليبرالية، وقد شجّع التحالفات الإقليمية المرتكزة على مبدأ الحكم الذاتي وسياسة خارجية وطنية.

لا يملك رجال الدول قوى مطلقة- ويكشف تعقلهم عن محدودية قدراتهم. ولا ينسى موريسي ذلك. كان تحالف تشرشل مع ستالين ضرورياً ولكنه ولّد الهيمنة السوفياتية.

أنقذت العلاقة الخاصة مع أميركا بريطانيا ولكن الثمن كان معظم عظمة بريطانيا.

فشلت فرنسا ديغول في تشكيل أرواح الجيل التالي الذي انتفض ضده في مايو – أيار عام 1968. ومنذ ذلك الوقت كره ذلك الجيل ديغول وتخلى عن نظرته لأوروبا ذات الدول- الأمم- أوروبا الأحزاب.

ولكتاب موريسي حدوده. أولاً في تركيزه على ما كتب ديغول وتشرشل والذي قلّل من قيمة أفعالهم. وفي مذكرات تشرشل “الحرب العالمية الثانية” مثلاً قمع تبادلات الحكومة في مايو – أيار عام 1940 التي أظهرت مدى اقتراب بريطانيا من توقيع معاهدة سلام مع هيتلر.

ثانياً: نظر إلى “حيز الضرورة” كما فهمه تشرشل وديغول. وهل كان إعلان ديغول أن “جزائر آبائنا ماتت” حكماً نابعاً من الضرورة؟ يعترض الكثيرون على ذلك مما حطم الحق الفرنسي لغاية اليوم. ومع ذلك هناك فرص قليلة أفضل لدراسة تشرشل وديغول وتقييم ظروفهما.

ونحن مدينون لموريس لتقديمه مثل ذلك المورد الرائع.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى