مملكة عارية كاسية
فجأة، فُتِح باب مكتب مستشار الأمن القومي الأميركي، وأطلّ الرئيس جورج بوش مبتسماً، ثم دلف إلى داخل الحجرة الواسعة، واتجه صوب الأمير بندر بن سلطان الذي قام من مقعده ليصافحه. سلّم بوش على بندر، وقال له: «علمتُ أنك هنا في مكتب «برن» (برنت سكوكروفت). فقلت أمرّ، وأسمع منك، وأتحدث معك». ابتسم بندر، وقال: «جئت منذ قليل. وكان الجنرال سكوكروفت يسألني لماذا لم تتخذ السعودية، إلى الآن، موقفاً حازماً ضد ما فعله صدّام حسين؟!». هزّ الرئيس الأميركي رأسه كأنه يوافق على تساؤلات مساعده، وابتسم ابتسامة متهكمة، وقال: «ليلة أول من أمس، اتصل بي جابر أمير الكويت طالباً أن أنقذه. لكنه فعل ذلك متأخراً جداً، بعدما ابتلع العراقيون بلده. وأمّا أنتم فما زلتم تتريثون، ولم تحسموا أمركم بعد. لعلكم تنوون أن تطلبوا النجدة، مثل جابر، بعد أن يجتاحكم جيش صدّام؟!». سكت بندر قليلاً، ثم أجاب: «نحن لا نريد أن يغزونا صدّام. ولكننا نريد، حينما نضع أيدينا في أيديكم، أن نمضي في هذا الأمر إلى نهايته، بلا رجعة». قال بوش: «أنا مستعد. وقد اتخذت قراري». سكت بندر من جديد، ثم أضاف شارحاً لبوش هواجس حكام السعودية، فقال: «سأتكلم معك، كما عهدتني بصدق. أنتم تريدون منا أن نتبعكم. حسناً، نحن دائماً نتبعكم. ولكن حصل، في مرات، أن مضينا وراءكم، ثم وجدناكم تنسحبون، في منتصف الطريق، وتتركونا لوحدنا، من دون أن تهتموا لأمرنا». صمت بندر، ونظر إلى جليسيه، ليرى أثر كلماته في وجهيهما، ثم أردف قائلاً: «وبصراحة أكثر، أنا أفهم مخاوف الملك فهد. هو يخشى أن تتركوه وحده، بعد أن يسير شوطاً كبيراً وراءكم. وحينها، سيجد نفسه في مواجهة الأعداء بمفرده». صمت بوش، ونظر في عيني بندر مليّاً، وقال له: «اسمع. أعدك بشرفي، أنني سأمضي ضد العراقيين حتى النهاية. ولن أرجع عن هذا الأمر مهما حدث». ثم التفت الرئيس الأميركي نحو مستشاره للأمن القومي، وقال له، ليزيد في طمأنة سفير السعودية: «برن، اتصل بديك (ريتشارد تشيني). وقل له أن يُطلع بندر على الخطط». رفع مستشار الأمن القومي سماعة الهاتف، وطلب توصيله بوزير الدفاع الأميركي. وساد الصمت لبرهة من الوقت، في انتظار تجهيز المكالمة، ثم تفطن بوش إلى أنه نسي أمراً، فقال لسكوكروفت: «أَوْصِ ديك أن يطلع بندر على صور الأقمار الصناعية أيضاً. دعوه يرى أرتال الدبابات العراقية التي تصطف على حدود بلده، وتتأهب للهجوم على المملكة». نظر السفير السعودي إلى جورج بوش بقلق، وارتسمت على وجهه علامات تحفز واهتمام.
«آل سعود عرايا، والجميع يبحلق فيهم»
في الساعة الثالثة والنصف من بعد ظهر يوم الجمعة 3 آب/ أغسطس 1990، خرج السفير بندر بن سلطان من البيت الأبيض برفقة ريتشارد هاس، مساعد الرئيس بوش لشؤون الشرق الأوسط. وتوجه الاثنان بالسيارة إلى مقر البنتاغون، في أرلينغتون في فرجينيا، حيث كان الوزير تشيني ينتظرهما في مكتبه. وجد بندر أن تشيني استدعى الجنرال كولن باول رئيس هيئة الأركان المشتركة، وبول وولفويتز وكيل وزارة الدفاع للشؤون السياسية. ومضى الجميع إلى غرفة العمليات المليئة بالشاشات، وكل أنواع أجهزة الاتصالات. أخذ كولن باول يشرح للسفير السعودي تفاصيل الخطة (1002-90) المعدة للتدخل العسكري الطارئ في الخليج الفارسي. واستعرض رئيس الأركان الأميركي السياق التاريخي الذي استدعى إنجاز خطط حربية للسيطرة على منابع النفط حتى لا تقع في يد أعداء الولايات المتحدة. فقال: «إنّ هذه الخطط أعدّت قبل عشرة أعوام، تنفيذاً لعقيدة كارتر (1). ثمّ تبلورت بعد اندلاع الحرب العراقية ــ الإيرانية، وعُدّلت مرات كثيرة، وروجعت بحسب التطورات التي كانت تستجدّ في الشرق الأوسط». وبعد الشرح التاريخي، شرع باول في تفصيل محتوى الخطة (1002-90) التي تعتمد على توجيه ضربات جوية موسّعة ضد مراكز العراق للقيادة والسيطرة، والمواصلات، والدفاع الجوي، والمطارات، وثكنات الجيش، ومنشآت الصناعة العسكرية. وإثر ذلك، يتمّ تدخل بري واسع للسيطرة على الأرض. ثمّ عرض باول أمام بندر نوعية القوات التي ستستخدم لتنفيذ المهمة العسكرية. كانت تضمّ أربعة فرق مدرعة ستنتشر على البر، وثلاث حاملات طائرات تمخر مياه الخليج وبحر العرب، وثمانمئة طائرة مقاتلة تكتسح الجو. وسأل بندر: «كم عدد الأفراد الذين ستضمّهم كل هذه القوات». أجاب باول: «بين مئة ألف ومئتي ألف، بحسب تقديراتنا الأولية». اطلق بندر صفيراً من شفتيه، وقال: «الأمر جديّ إذاً!». ابتسم باول، ثم قال: «نعم هو أمر جديّ جداً. لكنه من دون قواعد ارتكاز فوق أراضيكم، سيتحول إلى أمر هزلي!». فكّر بندر، ثم قال: «أظن أنّ عليّ أن أسافر فوراً إلى السعودية لكي أنقل إلى الملك الصورة الكاملة لما أراه وأسمعه هنا».
وأضاف بندر الكلمات التالية أمام سامعيه: «أفهم جيداً حالة الارتباك والخوف التي أصابت قادة العائلة المالكة في السعودية. لقد وجدوا أنفسهم فجأة عرايا بلا غطاء أمام الجميع. وفوق ذلك، فإنهم، في وضعهم المنكشف، يرون أنّ كل من حولهم يبحلق فيهم، أو يتربص بهم، وهم لا يدرون ماذا يفعلون» (2). وردّ تشيني على ملاحظة بندر قائلاً: «نحن نعرض عليكم الآن أفضل غطاء لحمايتكم. لكنكم تترددون في قبول عرضنا». مطّ بندر شفتيه، وتمتم: «هناك حسابات معقدة في السعودية. وأنتم لن تفهموا جيداً الخلفيات الدقيقة لكثير من الأمور». وعاد بندر إلى التفكير الصامت، ثم قال: «يجب أن أغادر إلى المملكة فوراً، لكي أحلّ بنفسي جوانب من تلك التعقيدات». قال وزير الدفاع الأميركي: «حسناً. وأنا أقترح أن يذهب معك نورمان شوارتزكوف قائد المنطقة المركزية للقوات الأميركية، ليشرح للملك فهد تفاصيل الخطة، ويهيئ الترتيبات اللازمة للقدوم السريع للجنود». وأحس بندر بأن مجيء شوارتزكوف معه، قد يمثل ضغطاً جديداً على القيادة السعودية، في هذا الظرف الدقيق. فأجاب على اقتراح تشيني قائلاً: «إنني أفضل أن أذهب وحدي، في البداية، من أجل ترتيب الأمر. ثم بعد ذلك، لا بأس أن يلحق بي الجنرال شوارتزكوف».
«آل سعود يحتاجون أن يستروا مؤخرتهم أيضاً»
لم يستطع الرئيس الأميركي أن يفهم أسباب اضطراب الملك فهد وتردده في اتخاذ قرار حاسم يطلب فيه الحماية الفورية من الولايات المتحدة لبلاده. ويذكر جورج بوش في كتابه «عالم تحوّل» أنه اتصل بفهد، في اليوم الثالث بعد الغزو العراقي للكويت، ليلحّ في طلب قرارٍ سعودي بقبول قوات أميركية. فوجد أن الملك يتهرّب من قبول هذه المسألة. وتذرّع فهد بأنّ الوضع الداخلي والخارجي للسعودية حسّاس. وقال إنه يرغب في طرد العراقيين من الكويت، وعودة الحكم فيها إلى أميرها. وأضاف فهد بأنه لا يتوقع غزواً عراقياً للأراضي السعودية، ولكنه لا يثق بصدام، ولا يقبل ما صنعه بالكويتيين. وأعاد الرئيس الأميركي تكرار مطلبه على فهد بوجوب استقبال قوات أميركية لحماية المملكة. ولم ينل بوش من فهد قبولاً صريحاً بهذا المطلب. وجل ما قاله الملك السعودي إنه سيبحث مع الوفد الأميركي الذي سيزور جدّة بعد أيام هذه القضية (3). ولم يستسغ بوش تمنّع فهد عن أداء دوره المتوقع في عملية الحماية الأميركية لمنابع النفط في الخليج. وفي الاجتماع الذي عقده الرئيس الأميركي، في كامب ديفيد، بعد المكالمة التي أجراها مع فهد، أظهر بوش امتعاضه من العجز الذي أبداه ملك السعودية. كان اجتماع كامب ديفيد، ظهر يوم 4 آب/ أغسطس 1990، مهماً وخطيراً. وقد حضره أهم أركان الإدارة الأميركية: وزير الدفاع ديك تشيني، ومستشار الأمن القومي برنت سكوكروفت، ووزير الخارجية جيمس بيكر، ورئيس هيئة الأركان كولن باول، وقائد المنطقة الوسطى نورمان شوارتزكوف، ومدير «السي آي إيه» ويليام وبستر، وكبير موظفي البيت الأبيض جون سنونو، ومسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي ريتشارد هاس. وأعاد بوش شكواه بأنه لا يفهم ماذا يدور في عقل فهد. إنّ خطة العمل ضد العراق تعتمد على استقدام السعودية للجيش الأميركي ليحشد قواه فوق أراضيها، ولكن العاهل العجوز لا يريد أن يلبي هذا المطلب. وابتسم تشيني، وردّد أمام الحاضرين كلام بندر، بالأمس، حين قال: «إنّ آل سعود يقفون الآن أمام الجميع عرايا بلا غطاء. وهم مرتبكون، ولا يدرون ماذا يفعلون». ضحك بوش من هذا التوصيف، وسأل تشيني: «وبماذا أجبت على كلام بندر؟». قال وزير الدفاع الأميركي: «قلت له إننا نوفر لكم أقوى غطاء لحمايتكم، لكنكم تترددون». وتعجب بوش من هذا الموقف، وقال: «إنني حقاً مندهش، هل يحتاج فهد لمن يقنعه بأن يغطّي نفسه؟!». ثم أضاف: «هؤلاء السعوديون يولولون لأنهم عراة. ونحن نعرض أن نغطّيهم، ولكنهم لا يقبلون!». وفكر جون سنونو، رئيس موظفي البيت الأبيض ذي الأصول الفلسطينية، ثم قال: «إنني أفهم سر تردد الملك فهد. إن بلاده هي موطن الأماكن الإسلامية المقدسة، وهو يلقّب نفسه بخادم الحرمين. وهو أيضاً حامي العقيدة الوهابية المتشددة، بحكم منصبه. والوهابية ترفض أن يحمي الكفار، أي المسيحيون، بلاد الحرمين. وأظنّ أنّ معظم الشعب السعودي يعتنق المبادئ الوهابية، وهم لا يرضون بقدوم جنودنا إلى بلدهم، وقد يثيرون المشاكل في وجه حكامهم، في هذا الوقت الحرج، إذا سمحوا بهذا الأمر. وكذلك فإنّ أعداء السعودية سيعتبرون طلب حكامها للحماية الأميركية مظهراً من مظاهر التبعية. وقد يعيّر البعض السعوديين بأنّ بلادهم يحتلها جنود أجانب كفار. وهذا أمر شديد الحساسية لفهد ولأسرته». وصمت سنونو قليلاً، ثم أضاف: «ولعلّ فهداً يخشى أيضاً إن استقر الأميركيون بجيوشهم قرب منابع النفط السعودي أن لا يخرجوا من تلك الأماكن أبداً». وفكّر بوش في ما قاله سنونو، ووجد أنّ كلامه صواب، فسأله: «ماذا تقترح لحل هذه المشكلة». أجاب سنونو: «أوّلاً، يجب أن نُطمئِن فهداً بأننا لا ننوي احتلال مملكته بذريعة الدفاع عنها. يجب علينا أن نقنعه بأننا سنخرج من بلاده فوراً متى أراد هو ذلك. وأنّ مهمتنا في بلاده ستنتهي بعد دفع صدّام عن منابع البترول، ومعاقبته على فعلته. وأما الأمر الثاني المتعلق بمشكلة حساسيات الوهابيين، فيجب أن نعالجه على الطريقة الإسلامية». نظر الجميع إلى سنونو بفضول، فقال الرجل السمين: «إنّ السعودية العارية، كما قال بندر، تحتاج لغطاء آخر يضاف لغطائنا. نحن نعرض عليهم تغطية صدرهم وبطنهم، ولكنهم يحتاجون أن يغطوا ظهرهم أيضاً، ويستروا مؤخرتهم. وهذا الغطاء الإضافي يجب أن تتولاه دول عربية وإسلامية. إن ملك السعودية الذي يسمي نفسه خادم الحرمين، سيجد نفسه محرجاً أمام العالم الإسلامي إذا طلب من جنود أميركيين – كفار في عرف المسلمين- أن يحموا بلاده التي هي أرض البقاع المقدسة. وأمّا إذا جاء الأميركيون ضمن إطار أوسع يتجمع فيه عرب ومسلمون، فإنّ بالإمكان عندئذ بلع المسألة برمّتها». واعتبر بوش أن اقتراح سنونو ذكي ووجيه، فقال لتشيني الذي كان يتأهب للذهاب إلى السعودية لإقناع فهد: «ديك، إنني أرى أن تذهب إلى الملك، وتقترح عليه أن يغطي نفسه بالغطاء الإسلامي. وأفهمه أيضاً أننا لا ننوي احتلال مملكته. وأنا أعتقد أنّه سيحسم تردده، حينها».
«سنخنق معاً العراق، وبعدها نقطع رأسه»
بعد يومين، وصل ديك تشيني إلى جدة، وكان يرافقه قائد المنطقة الوسطى نورمان شوارتزكوف، ونائب مدير المخابرات المركزية الأميركية روبرت غيتس، ووكيل وزارة الدفاع بول وولفويتز. وكان في استقبالهم، في المطار، الأمير بندر بن سلطان. وفهم الوفد القادم من واشنطن من بندر، ومن السفير الأميركي في السعودية شاس فريمان أنّ تردّد فهد ليس مردّه المخاوف، فهو ميّال إلى القبول بالحماية الغربية، لكنّ المشكلة تكمن في تشدد ابن باز، وهيئة كبار العلماء التي تحتكر السلطة الدينية في المملكة. كان تقدير السفير شاس صحيحاً، فابن باز أصرّ، في بداية الأزمة الكويتية، على عدم جواز الاستنجاد بالكفار للدفاع عن المسلمين مستدلاًّ برأي قديم لأحمد بن حنبل يقطع فيه برفض هذا الأمر. واستشهد ابن باز للتدليل على صحة موقفه، بأحاديث منسوبة إلى النبي، ومنها قوله المدوَّن في صحيح مسلم: «لن أستعين بمشرك». قوله في حديث رواه الحاكم في صحيحه: «إننا لا نستعين بالمشركين». لكنّ الملك فهد ألحّ على ابن باز كي يغيّر هذا الحكم الديني، ويشرّع استعانة السعودية بجيوش دول غير إسلامية. واستمر فهد في الضغط على ابن باز مجنّداً في هذا الأمر شقيقيه سلمان ونايف، وكان لهما دالّة كبيرة على المفتي السعودي. وذهب الأمير سلمان بن عبد العزيز أكثر من مرة إلى ابن باز ليحثّه على تغيير حكم الشرع. كان الشيخ الأعمى يقطن في مجمّع فيلات، في حيّ «البديعة» الفاخر في الرياض الذي يضمّ قصور كثير من الأمراء. ولقد أهدى سلمان أمير الرياض تلك الفيلات للشيخ، فاتخذها سكناً له ولزوجاته الأربع. وألحّ سلمان على المفتي كي يغيّر موقفه في حرمة الاستنجاد بالأميركيين، واستمر يضغط عليه بوسائل متنوعة، تتخذ اللين أحياناً، والتهويل أحياناً أخرى. وفي النهاية أثمرت ضغوط السلطة عن تراجع مفتيها. وسريعاً ما صدرت الفتوى الوهابية الجديدة، خالية من أيّ سند من القرآن أو السنة، على النحو التالي: «تؤيد هيئة كبار العلماء حق وليّ الأمر في أن يطلب إعانة الدول العربية وغير العربية لدفع الخطر المتوقع، والوقوف بوجه العدوان المرتقب ممن يريد مداهمة البلاد. وتؤيد الهيئة استقدام قوات مؤهلة بأجهزة قادرة على إرهاب من أراد العدوان على هذه البلاد» (4).
في مساء يوم 6 آب/ أغسطس 1990، دخل أفراد الوفد الأميركي الذي يقوده وزير الدفاع تشيني إلى قصر «السلام» في جدّة. وكان الملك في انتظارهم في جناحه المذهّب. جلس فهد في صدر القاعة، وعلى يمينه ولي العهد الأمير عبد الله، وعلى اليسار جلس عدد من الأمراء، يتقدمهم نائب وزير الدفاع عبد الرحمن بن عبد العزيز (كان الأمير سلطان في إجازة في المغرب)، ووزير الخارجية سعود الفيصل، وجلس السفير بندر بن سلطان وراء عمّه الملك لكي يترجم له ما يقوله الأميركيون. وبعد مقدمات مطولة عن تاريخ الصداقة السعودية الأميركية، وعن المودة القديمة التي يحملها فهد لبوش، دخل الفريقان إلى الأمور الجدية. فقال تشيني: «إنّ صدام حسين رجل كذاب ومخادع وعدواني يريد تغيير موازين الأمن في المنطقة، وما لم نتصدَّ له فإنّ شراسته ستزيد. والرئيس بوش يقترح أن تتعاون الولايات المتحدة مع السعودية في التصدي لنوايا العدوان العراقي على المملكة، ثم بعد ذلك سيعمل البلدان وحلفاؤهما معاً على خنق العراق بالعقوبات الاقتصادية». ولاحظ تشيني أن القرار 661 الذي أصدره مجلس الأمن، في صبيحة ذلك اليوم، مهم. فقد فرض المجلس عقوبات غير مسبوقة تحرم العراق من تصدير كافة سلعه إلى الخارج، بما فيها النفط، وتحظر عليه توريد أي بضاعة، وتوقف تسهيلات أي خدمة مالية أو تجارية على أرضه. وأضاف تشيني أن العراقيين إذا أحسّوا بضغط الحبال التي نلفّها حول أعناقهم، فإنهم قد يرتكبون حماقة الهجوم على السعودية. ولهذا يجب علينا أن نكون مستعدين للمهمتين معاً: مهمة الدفاع، ومهمة الخنق» (5).
بعد مقدمة تشيني، بدأ الجنرال شوارتزكوف في عرض صور طائرات الاستطلاع، وخرائط الأقمار الصناعية على الملك. ولم يجد الجنرال الأميركي الضخم مقعداً يجلس عليه، فحنى إحدى ركبتيه، وقرفص تحت فهد، وأخذ يشرح ما تتضمنه الصور الجوية، وكيف أنّ دبابات عراقية اخترقت المنطقة المحايدة بين السعودية والكويت. وقال شوارزكوف: «إنّ بمقدور صدام حسين أن يحتل مناطق نفط السعودية، في ظرف يومين اثنين. ونحن لا ندري ماذا يدور الآن في رأسه». وكان ذلك ترهيباً واضح الدلالات لفهد وإخوانه. وأجاب الملك على تحذير الجنرال الأميركي له، بالقول: «إننا كنا نعتقد أن صدام حسين رجل صادق. ولقد قال لنا، ولحسني مبارك إنه لن يهاجم الكويت. ثم فعل عكس ما وعد به. ونحن الآن على بيّنة من نواياه. وطالما أنكم ستكونون معنا، فإننا في وضع يسمح لنا بردّ شرّ العراقيين عنّا». كانت تلك إشارة واضحة من فهد بأنه قبل بأن يجيء الأميركيون ليدافعوا عن عرشه، ويقوّضوا حكم غريمه. وابتسم شوارتزكوف، وقال بأسلوب ظنّ أن فهداً سيفهمه، ويستسيغه: «إنّ جسم الجيش العراقي قد لا يزيد طوله عن عشرة أقدام، ولكنه قوي العضلات. وأمّا ضعفه فيكمن في قيادته المركزية. ونحن إذا قطعنا رأس تلك القيادة، فإنّ بقية الجسم سيتهاوى بلا حراك». وابتسم الملك هو الآخر، وقال: «إنّ علينا أن نعمل معاً لإهلاك هذا الجسم». ثم أضاف فهد قائلاً: «إنّ أمير الكويت سكت حتى فات وقت التصدي لخطر العراق. فلم يعد الآن أميراً، ولم تعد إمارة تسمى الكويت». وعلّق عبد الله ولي العهد، قائلاً: «إنّ الكويت ما زالت موجودة»، وسخر الملك منه قائلاً: «نعم هي موجودة، ولكنّ أهلها يقيمون في فنادقنا». ختم ديك تشيني النقاش بالتزام هام: «إنّ الرئيس بوش مستعد لحماية السعودية فوراً، إذا طلبت حكومتها منا المجيء. وهو يلتزم أيضاً بمغادرة الجنود الأمبركيين إلى بلادهم فور أن تعلن الحكومة السعودية عدم حاجتها إلى وجودهم». كانت تلك هي الورقة الأخيرة التي استعملها الأميركيون لتبديد آخر الهواجس في رأس فهد. والتفت ملك السعودية إلى وزير الدفاع الأميركي، وقال له الكلمة الأولى والوحيدة التي نطقها بالإنكليزية: «أوكي». وكانت تلك الكلمة تعني أن مملكة آل سعود قررت أن تستر عريها بدرع غربي، وأن تغطي مؤخرتها بتحالف عربي، وأن تحجّب رأسها بفتاوى إسلامية، ثم تمضي قدماً، بعد ذلك، لإهلاك العراق.
الهوامش:
(1) «عقيدة كارتر» (Carter Doctrine) هي قرار استراتيجي اتخذه الرئيس الأميركي الأسبق، وأعلنه في خطاب حالة الاتحاد، في 23 كانون الثاني/ يناير 1980. وتعهد كارتر أمام أعضاء الكونغرس بـ«التصدي لأيّ محاولة من جانب أي قوة خارجية للسيطرة على الخليج الفارسي، لأن ذلك يُعتبر تهديداً للمصالح الحيوية الأميركية، ويستدعي ردّاً بكافة الوسائل المتاحة، بما فيها القوة العسكرية».
(2) نقل الكاتب الأميركي بوب وودورد، في الصفحات 254 إلى 258 من كتابه «القادة»، الحوارات التي جرت بين جورج بوش، وديك تشيني، وبرنت سكوكروفت، وبندر بن سلطان، في اليوم التالي للغزو العراقي للكويت. وقد اعتمد بوب وودورد، في كتابه، على شهادات مفصلة رواها له بعض أركان الإدارة الأميركية في عهد جورج بوش (الأب). ومن أبرز من اعتمد وودورد على شهادتهم، رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة كولن باول. وكان الرجل حاضراً في الاجتماعات التي عقدت للتأهب للحرب على العراق، ومطلعاً على سياقها.
(3) George H W Bush & Brent Scowcroft – A World Transformed (Vintage Books Edition,1999) p: 329
(4) صدرت فتوى هيئة كبار العلماء في السعودية التي تجيز استقدام الجيوش الأميركية للدفاع عن أرض الحرمين، في 13 آب/ أغسطس 1990. ونشر نص الفتوى في العدد 29 من سنة 1411 هـ.، في الصفحتين 349 و350 من مجلة «البحوث الإسلامية». ومن الطريف أنّ الشيخ ابن باز كان أوّل من وقّع على الفتوى التي تجيز الاستنجاد بالأميركيين للمشاركة في الدفاع عن السعودية. وكان هو نفسه الرجل الذي أفتى، قبل عشرين عاماً، بحرمة استعانة جمال عبد الناصر بالسوفيات للمشاركة في الدفاع عن مصر. راجع الصفحتين 300 و301 من الجزء الأول من كتاب عبد العزيز بن باز «نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع: مجموعة فتاوى ومقالات متنوعة».
(5) Bob Woodward – The Commanders (Simon & Schuster, 1991) p: 266 – 273
صحيفة الأخبار اللبنانية