التناسل السّردي.. الكتابة على الكتابة

 

أبناء الجبلاوي

أوّل ما يستدعي عنوان رواية إبراهيم فرغلي “أبناء الجبلاوي: سيرة رواية”، عنوان ترجمة رواية نجيب محفوظ “أولاد حارتنا” حيث ترجمت بذات العنوان إلى اللغة الإنكليزية. الغريب في الأمر أن لعنة المنع التي حاقت بأولاد حارتنا زمن صدورها، عندما تربصت بها الأيدي العابثة وخفافيش الظلام، حلت على هذه الرواية، فأصابها أيضا المنع ومصادرة الأجهزة الرقابية لها عند صدورها باعتبار أن “هذه الرواية تكرّس لرواية نجيب محفوظ “أولاد حارتنا” وهي “رواية مثيرة للجدل” على حد تعبير ناشرة الرواية فاطمة البودي. حضور نجيب محفوظ لا يتأتى في هذا العنوان وكذلك في حضور روايته “أولاد حارتنا” بما شهدته هذه الرواية من مصادرة ومنع وصل إلى حد التربص بالرجل والتحريض على قتله. وهو ما يجعل من احتمالية أن الرواية ستكون بمثابة رواية متناصة مع أحداثها بالتوازي، وفقا للعنوان الفرعي الذي ذيّل به فرغلي روايته هكذا “سيرة رواية”. لكن حضور نجيب محفوظ وروايته لا يتوقف عند عتبة العنوان أو حتى الإيهام الذي يخلقه العنوان الفرعي من أفق انتظار عند القارئ، لكن ما إن يدلف القارئ من العتبة الرئيسية إلى المتن حتى يصطدم بفهرس المحتويات الذي ينقسم إلى أربعة أجزاء.

في الأقسام الأربعة يحضر نجيب محفوظ بأسماء أعماله التي تأخذ صيغة الأقسام، ومن هذه: (صدى النسيان، الشيطان يعظ، أبناء الجبلاوي). والجزء الرابع يعنونه بـ”حكاية بلا بداية ولا نهاية”. وأسماء أعمال محفوظ لا تتأتى كحلية وإنما هو اختيار عن عمد يكشف به عن حالة التماهي بين السخرية التي تقدمها هذه الأعمال لواقعها، والسخرية التي يقوم عليها هذا المتن الجديد وتعد القضية الأساسية التي تناقشها الرواية، وهي سخرية تصل إلى حد إدانة الواقع الثقافي واتهامه بالعشوائية. ثم يواصل الكاتب استدعاء محفوظ وهذه المرة باقتطاف جزء من رواية “أولاد حارتنا” ويضعه كتمهيد. ثم يبدأ القسم الأوّل من الجزء الأوّل بحضور فنتازي لنجيب محفوظ من خلال هذه الخبر الذي أذاعه التلفزيون بأن “أعمال نجيب محفوظ اختفت من البلد”، وهو ما شكّل “لغزا لا حلّ له، وأصبح مصير تراثه مماثلا لمصير الحضارات التي تعرضت للغرق فأصبحت نسيّا منسيا” (ص131).

اختفاء الأعمال يكتشفه كبرياء مصادفة، عندما يطلب منه رفيق فهمي المسن والمقيم في دار المسنين، أثناء تردده عليه لكتابة مذكراته، يطلب منه ذات مرة أن يحضر له رواية الحرافيش لنجيب محفوظ، ولكن ما إن يصل إلى دار الشروق، حتى يجد الرف الذي عليه الرواية فارغا، يتكرّر الأمر في كل المكتبات التي يذهب إليها بحثا عن الكتاب، لكن المفاجأة الحقيقية تتمثّل عندما ذهب إلى بيته ومكتبته الخاصة وجد أن المساحة التي يضع فيها كتب محفوظ “خالية. مساحة لا تقل عن متر كانت تضم عددا من أعماله” (ص37) فأصبح سؤال “أين ذهبت كتب نجيب محفوظ؟ حديث الساعة”. وهي النقطة التي يستغلها الكاتب ليمارس لعبة كتابية تبادلية، ففي الوقت الذي تختفي فيه أعمال محفوظ من المكتبات التي تقوم ببيعها، وأيضا المكتبات الشخصية كمكتبة كبرياء وجاسر، نجد حضورا واقعيا لشخصيات الأعمال، نراها تظهر بوجودها تتحدث مع كبرياء تتابع هي الأخرى حالة الاختفاء، كما أن كبرياء يجري حوارا مع بعضها. ومن ثم تتحوّل الشخصيات الخيالية إلى شخصيات واقعية، بعد اختفاء الدليل الوحيد على كونها شخصيات تنتمي فقط إلى المخيلة.

ثمة تقنية أخرى اعتمدها إبراهيم فرغلي في استحضار النص المحفوظي، تتمثل في استعادة أوصاف لشخصياته الروائية من شخصيات روايات نجيب محفوظ، حتى أنه يستعير أوصاف نجيب محفوظ لشخصيات السيد أحمد عبدالجواد، وعاشور الناجي، وزينب ديات وغيرهم. ومن هذا ما يتبعه عندما يقترب عاشور الناجي من كبرياء فيصفه هكذا “طوله فارع، عرضه منبسط، ساعده حجر من أحجار السوق العتيق، ساقه جذع شجرة توت، رأسه ضخم نبيل، قسامته وافية التقطيع غليظة مترعة بماء الحياة” (الحرافيش، ص14). التماهي مع نص محفوظ يتجاوز هذا التناص إلى التماهي في الخطاب السردي المحفوظي، فعاشور الناجي وهو لقيط مثل كبرياء، عندما يأتي إلى الحارة، يتبادل مع كبرياء حوارا عن استدعائه للحارة، فيستعير عاشور ذات الخطاب اللغوي الذي صاغه محفوظ من قبل وإن كان مفارقا لسياقه القديم، فما إن يهل عاشور يخاطب كبرياء قائلا “لا تخشى شيئا أنت هنا في أمان”. ويأتي الرد من قبل عاشور الناجي على هيئة اقتباس من رواية الحرافيش هكذا “لماذا دعوتموني إلى هنا؟”.

وأثناء بحث كبرياء عن أقرب الشخصيات المحفوظية لناجي، يبدأ المُفاضلة بين شخصيات روايات محفوظ، ويقدم كل شخصية ودورها في عمل محفوظ، فبهية أبعد عن حميدة وبالمثل عايدة عشيقة كمال، وزهرة معشوقة روّاد ميرامار. ويوازي بين اختفاء عاشور الناجي الذي كان السبب وراء رحلة الحرافيش لتأسيس العدل في الحارة كما أسسها هو، ومن ثم يتساءل كبرياء هل يكون اختفاؤه (أي أعماله) له معنى مشابه؟ التماهي يصل إلى درجة الحوارية مع شخصيات محفوظ فيصحب كبرياء رادوبيس في نزهة في النيل، ويلتقي في القبو بالكثير من شخصيات محفوظ ويحادثها، فكان يلتقي أحمد عاكف وقضى معه وقتا يتحدثان في شؤون الدنيا والحياة، لكن كبرياء لم يشعر تجاهه بجاذبية، فقد بدا له متحفظا وأقرب ما يكون للموظف التقليدي، ومن الشخصيات النسائية زنوبة في الثلاثية وزينات في الحرافيش، ثم التقى زينب دياب بطلة الكرنك، فما إن يأتي اسمها يستدعي معلوماته عنها من الرواية وفقا لخطاب محفوظ عنها “أبوها بياع لحمة رأس وأمها في الأصل غسالة، ثم صارت دلالة بعد كفاح طويل..” (الكرنك، ص319) بل حتى أنهما يتحاوران عن دورها كمخبرة بعد أن خرجت من المعتقل، فيقول على لسانها وهي متوجها بخطابها إلى كبرياء “خرجت من المعتقل وأنا اعتبر نفسي عاهرة، وأصبحت مخبرة سرّية، لأنهم هددوني إذا لم أستجب لهم، وقد اعترفت في الرواية، وقلت إنني أحتقر نفسي لأنني أصحبت جاسوسة وعاهرة” (ص322). كما ترد مقاطع شبه كاملة من الحرافيش وأصداء السيرة الذاتية، وبداية ونهاية وميرامار، علاوة على حضور الحرافيش أبناء الجبلاوي وأحاديثهم مع كبرياء في القبو.

مجلة الجديد اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى