رواية “المكشوف”: قراءة باربارا كينغسلوفر
تتحدث رواية المكشوف ل باربارا كينغسلوفر عن عائلة أميركي من الطبقة الوسطى تكافح لتلبية إحتياجاتها مع إنكشاف الإنتخابات الرئاسية الأولية عام 2016. عن “إمرأة عاطلة عن العمل تسعى لتأمين ما يسد رمقها ورمق خمسة أفراد يعتمدون عليها”. تكتب كينغسلوفر عن عائلة نوكس-تافولاريس التي يمثّل أفرادها أعضاء مضطهدين من الناخبين الأميركيين البيض.
نجد في وسط الرواية ويلا وهي رئيسة تحرير مجلة تحولت إلى الكتابة الحرة. وفي مدارها نجد زوجها ايانو وهو أستاذ جامعي تحول إلى مدرس مساعد. وإبنها زكي المتخرج من جامعة هارفرد والذي أصبح عاطلاً عن العمل وأب مطلق في آن معاً. ثم إبنتها تيج وهي من مواليد عام 2000 تحولت إلى منظمة يسارية ووالد زوجها المحتضر نك وهو عامل مصنع تحول إلى داعم لترامب وحفيدها دستي ابن زكي وريث المستقبل الأليم.
تسجّل هذه الرواية الثامنة للمؤلفة محاولة ويلا إنقاذ منزل عمتها المتوفاة وهو قصر فيكتوري متداعي في فاينلاند (أرض الكرمة) بولاية نيوجيرسي وهي بلدة (حقيقية) قديمة تمتنع عن شرب الخمور جعلتها تربتها في يوم ما جذابة لصانعي الزجاج ومربي الدواجن ومؤسسي ماركة ويلش لعصير العنب.
فقدت فاينلاند سبب وجودها بعد أن سمّمت سلسلة من مصنعي المبيدات الحشرية الأرض وهربت مع العديد من وظائف المدينة وقسم لا بأس به من سكانها البيض. ورثت أسرة نوكس-تافولاريس المنزل منذ ذلك الوقت وترى ويلا علائم تهاوي فاينلاند في كل مكان.
عندما تختلس نظرة إلى باحة منزل جارها جورج ترى “مكباً للسيارات” وتسمع “شتائم إسبانية متقطعة تشي بالنجاح أو الإحباط” مع محاولة أطفال الجوار اللعب بالسيارات المهجورة. تمر بها الأمهات الشابات على الرصيف وتسمع “حوارهن بلغة آسيوية موسيقية” وتجتاز في مشيها اليومي “متجراً للرهن ومكتباً الرعاية الإجتماعية ومطعماً تايلندياً والسوق الصيني رقم واحد”. وتفكر لو كانت لترسل مقالاً عن البلدة لاختارت عنوان :”مدن القرن التاسع عشر الفاضلة تذهب إلى الجحيم.”
إذا كان من المفترض أن تكون فاينلاند نسخة مصغرة للولايات المتحدة الأميركية في عام 2016 يكون المنزل عذراً وجيهاً لحشر كينغسلوفر لخمسة أفراد من مشارب سياسية متباينة تحت سقف راشح وحيد.
كانت فترات العشاء العائلية فرصاً مجهدة للتمرن على الخطوط الأساسية المعيبة في السياسة الأميركية الرائجة. وتتساءل ويلا لماذا يظهر”أن هناك القليل من المال في العالم عما سبق”. ويندب ايانو حظه وفقدانه للأمان الوظيفي ويلوم فشل محاولات تثبيته في الوظيفة على زملائه الغيارى وإشاعات مغرضة لعلاقات مع الطالبات. ويشتكي قائلاً: “ثمة قيود، الجميع يتلفظ بتلك الكلمة ولكنني لا أفهمها”.
يتجادل زكي وتيج حول رأس المال التمويلي وإبادة البيئة الطبيعية ويتبادلان عبارات مبتذلة بينما تنظر ويلا متحسرة ويقدم ايانو عبارات توضيحية.
يقول زكي: “النمو أو الموت هذا هو قانون إقتصادنا يا تيجو”. ترد تيج حانقة بالقول: “لم يعد مزيد من الفسحة للنمو”.
يعرض ايانو “العرض والطلب”. وهو الذي يحمل درجة دكتوراه في السياسة العالمية.
يدمدم نك نعوتاً عنصرية ويشتم أوباماكير(خطة الرئيس باراك أوباما للرعاية الصحية).
يضع الرضيع أشياء في فمه ويبكي.
هذه هي رواية العائلة الأميركية مثل برنامج حواري صباح يوم الأحد- دراما شخصية من دون أي شخصيات فقط مجرد شذر من الأصوات التي تتنكر كمخلوقات بشرية.
تمتلئ هذه الرواية الأميركية الأولى والتي تتعامل مع الإنتخابات عام 2016 بأشخاص وأحداث وقضايا مألوفة: دونالد ترامب (لا تصرّح المؤلفة بإسمه صراحة قط ولكن تسميه بولهورن) وبيرني ساندرز(الذي يتكون داعموه من الملوّنين وذوي القصات الغريبة والجاهزين دائماً للرقص) والأزمة المالية عام 2008 وحركة “احتلوا وول ستريت” وقروض الطلبة واقتصاد الجيج والهجرة والإحترار العالمي.
تعلم الرواية على ما يبدو أننا نعيش حالة مزرية من عدم المساواة وكوارث بيئية تلوح في الأفق لا يوجد مهرب منها. ومع ذلك وحالها حال البرامج الحوارية صباح أيام الأحد نجد الرواية بالغة الإنشغال بالتباهي بديمومتها بحيث تضيع المتاعب السياسية والاقتصادية الكامنة التي أوصلت البلاد إلى هذا المأزق.
تحذر تيج والدتها قائلة: “لا يمكن حل مشاكل اليوم بأشخاص اليوم”. ولكن والدتها لا تستطيع إستيعاب الدرس وتبقى مجروحة ومهزوزة بفقدانها رفاهيات الطبقة الوسطى وتصبح حساسة لسبر منابع الغنى والسلطة وكيف يشكّلان مصائر البشر.
تشترك بهذا الإحساس مع كينغسلوفر التي توصف غالباً “بالروائية السياسية” ولكنها لا تفقه كثيراً من حقائق السياسة. تتخصص رواياتها بتلميحات التعاطف المهنئ للذات: العرض الأخرق لشخصيات تراها سمجة ولكنها ترغب بإسترجاعها وتتمثل الإحترام والتفهم الذي تعتقد أنه قد يفتح قلوبنا وعقولنا ويغلب حزبيتنا اللاذعة.
ولا تكون النتيجة رواية سيئة – فهي ملائمة بكل ما في الكلمة من معنى – ولكنها تفشل في الإستحواذ على الحقائق المهلكة للرأسمالية الليبرالية بحيث قد تقلّص دفعة واحدة وإلى الأبد التخيّل المتواضع الثقافة بأن القصص قد تساعدنا على الخلاص من هذه الأوقات المظلمة. بدأت الأوقات المظلمة بالنسبة لكينغسلوفر عام 2012 في ذات العام الذي شهد إعادة انتخاب باراك أوباما لفترة رئاسية ثانية وفي الوقت الذي تقدم فيه دونالد ترامب بطلب لتسجيل عبارة “نجعل أميركا عظيمة مرة ثانية” علامة تجارية.
كانت قد نشرت للتو روايتها الأخيرة “سلوك الفرار” وهي حكاية إمرأة فقيرة متدينة تضطر لمواجهة علم التغيّر المناخي. وفي أثناء بحثها عن مشروعها التالي بدأت كينغسلوفر بالإحتفاء بإحساس مبهم بأن العالم الذي نعرفه يوشك على الإنتهاء. وسرعان ما تبين أن الإحساس لم يكن غامضاً. تكتب في رسالة استهلالية موجهة لقراء رواية “المكشوف”.
“بدأت أنماط جديدة من الزعامة بالصعود يغذيها الخوف والإستقطاب. وبدأت كثير من الأمور التي إعتمدنا عليها بالتهاوي: الحكم المدني والوطنية السخية وراتب تقاعدي مضمون في نهاية عمر من العمل وتجمد القطبين إلى الأبد.”
و”نحن” التي تشير إليها كينغسلوفر في رسالتها ليس أي قارئ ولكن القراء الأعضاء في قاعدة مشجعيها الواعين اجتماعياً: قراء ملكوا إلى عهد قريب حالة مشتركة من الإستقرار السياسي والاقتصادي التي نستند إليها جميعاً لحماية مصالحنا.
مثّل القدوم غير المرحب به، بالنسبة لأولئك القراء وكينغسلوفر، دونالد ترامب تآكلاً لأنماط التحضر وكان حادثة تاريخية تنذر بنهاية العالم. وهذا الإستقراء لنهاية العالم قصير النظر إلى حد كبير. أصبحت السياسات الأميركية أكثر حدة والإساءات أكثر جلاءً ولكن الشقوق كانت تنتشر وتتعمق طوال منتصف القرن الماضي.
ويرى الناقد لي سيغيل في عام 1999 أن كينغسلوفر بدأت بعد عقد من إنخراطها في كتابة الروايات بخيانة توجه مغضب لتبسيط عرضها للتشابكات السياسية المعقدة إلى حوادث لنشر اهتمامها الأخلاقي-الإشارة إلى الفضيلة. ففي رواية “أحلام حيوان”(1990) ترى المتحاربين في نيكاراغوا، الساندينيستا والكونترا على حد سواء، “أناس بسطاء مخلصين” يحاولون البحث عن “السلام ونوعية ألطف من الحياة”.
لم تكن الكونغو في رواية “إنجيل الخشب المسموم” (1998) موقعاً للاستغلال الإستعماري الوحشي ولكن “أرض العجائب” التي شجعت كينغسلوفر على استكشاف “الدائرة الكبيرة المتحولة بين الإستقامة والحق.”
تستهل كينغسلوفر “المكشوف” من خلال التأكيد على المخاطر التي أخذتها على عاتقها في الكتابة عن الحاضر: “من المستحيل فهم أزمة ما عندما تقف في داخلها ولكن الفن الجميل يتولد من المخاطرة بالمستحيل لذا قررت المحاولة.”
تقع مسؤولية شرح الأزمة على شخوص كينغسلوفر الذين يتبادلون التشكي من الأجور الراكدة والقروض الطلابية والقومية البيضاء “واللحظة التاريخية لعدم توافر غداء مجاني بعد الآن”.
يلتصق الراوي بصيغة الشخص الثالث بويلا التي تتميز بمقدرتها على الإبحار بين إستقالة ايانو وآمال تيج “التافهة” وروح زكي المؤمنة بقدرة الرأسمالي على العمل وتعصب نك وإدراكها الألمعي الخاص لأصدقائها وجيرانها.
وتتحدث هنا عن جارها جورج وأخيه:
“لم تكن مشاعر حادة .. تجاه هؤلاء الفتية الوسيمين وأصدقائهم الذين ارتدوا شورتات رياضية وأحذية بلاستيكية وكأن الحياة بدأت في غرفة تبديل الملابس.”
وعن المتعاقد الإيطالي معها، تقول: “كان يلفظ كلمة لوز بغرابة. ولاحظت معارضته للتعاقدات وسأعود خلال يوم التي يكررها كثيراً وكم تمنت لو كان بحوزتها مسجل الجيب.”
تأتي إحدى طالبات ايانو وهي فتاة شابة إلى المنزل مريضة ومنتحبة وملمحة إلى أن ايانو أقام علاقة معها وتقول: “تمسح أنفها المدرار ثم تعبث بحلقة حديدة على حاجبها وتمسح أنفها ثانية مما جعل ويلا تجفل. وحتى مع شكوكها بأيانو … ولكنها لا تعتقد أنه سينحط إلى مستوى هذه الفتاة. كان أيانو مههوساً بالنظافة.”
ولا يسهل قياس ما إذا كانت كينغسلوفر تسعى إلى الابتعاد لمسافة عن صوتها السردي وضمير ويلا: يبدو أن غموض ويلا العنصري أحياناً والمتحيّز للنساء في أحيان أخرى يستحق على الأكثر ضحكة أو إستهجان وقد تخفف من عنصرية شخصيات مثل نك وترجعها إلى تقدم سنه وضعف قواه.
وفي أحيان أخرى تبدو ويلا بوقاً لكينغسلوفر، لذلك تردد نظرتها المعزولة للحقيقة السياسية. وتظن ويلا مع دنو الإنتخابات الأولية من نهايتها “من الواضح أنه لن يتمكن أحد من توقيف بولهورن أو أحداً ممن يشبهه. هنا كان الزلزال والحريق والفيضان وذوبان الجليد السرمدي.”
ويبدو في أحيان أخرى أن ويلا تمثّل فكرة كينغسلوفر لحال الطبقة الأميركية الوسطى: متزمتة في أحيان ومتعجرفة بألم ومحدودة في مقدراتها التخيلية. ولكن الرواية تفتقر إلى التفهم السياسي وتحاول تعويض ذلك عبر المضاهاة التاريخية.
تتشابك حكاية عائلة نوكس-تافولاريس في الفصول المتناوبة مع حكاية تاتشر غرينوود وماري تريت في القرن التاسع عشر: جيران فاينلاند والعلماء الهواة والمدافعين بشغف عن أفكار تشارلز داروين ضد الديماغوجية الدينية لمؤسس فاينلاند تشارلز لانديس. قضى تاشتر ومارى الوقت سوياً يراقبان النباتات والحيوانات وكل منهما معجب بذكاء الآخر واتزانه.
وتذمراً من لانديس الزعيم المتعصب المرتشي والناشر للخوف الذي يطلق النار على شخص ما في وضح النهار- يوري كاروث ناشر الصحيفة المعارضة الوحيدة في فاينلاند- من دون أن يخسر أياً من أتباعه. ويخشون من أن يدنس لانديس مدينتهم الأميركية الفاضلة وأنها ستنحل عند الخياطات وتظهر نفسها حلة مغطاة بجشع مكشوف.
ترسم كينغسلوفر المقارنة بين الماضي والحاضر بيد قاسية. وتستخدم الجملة الختامية لكل فصل كعنوان للفصل الذي يليه.
تعيش ويلا وأسرتها في نفس المنزل الذي امتلكه آل تاتشر قبل 150 سنة بينما يمتلك جورج المنزل المجاور والذي كان في السابق ملكاً لماري تريت. تأمل بتأهل منزلها كمعلم تاريخي وتبدأ بالبحث عن تراث تاتشر وماري وتكتشف في رسائلهم نموذجاً لليبرالية المعتدة بذاتها من نمط القرن التاسع عشر.
وتاتشر وماري ديموقراطيان وعلمانيان وتجريبيان ومنافحان عن حرية التعبير والصحافة وعابدان لوحدة الطبيعة الخضراء. وهما لا يشكّلان شخصيات من الرواية ولكن إسقاطات حنينية لزمن ولّى مكّنت فيه العقلانية والفردية والوسطية والإنفتاح (من دون ذكر التمييز العنصري والمعاناة الجزئية ومحدودية الصرف الصحي في المنازل) من صنع التقدم.
تقول الراوية: “كانت ماري حرة في تفحص العالم كما تراه”، محفزة غبطة ويلا وهي “تمخر في عباب تلك الحرية”. ولا يمكن لأحد سوى إنقاذ الليبيرالية النقية الجوهر والتي لم تدنس بالطاقات الراديكالية أن تحمينا من الحاضر.
ولكي تنقل تلك الرسالة يتعين على ويلا ترويض تيج التي تتحدى المعتقدات التقليدية بلطف وتجعلها شخصية كينغسلوفر المتعددة الأبعاد.
تتخلى تيج في نهاية الرواية والتي وقعت في غرام جورج عن أحلامها بثورة اشتراكية وتقبل بمستقبل أكثر تواضعاً. تتبنى مع جورج الوصاية على دستي وتنتقل إلى منزل ماري تريت حيث تصمم تيج على أن تكون “أماً مختلفة” عن ويلا.
تزرع تيج خضارها وتصنع طعام الصغير بيديها وتلفه بحفائض قماشية وتصنع له ألعاباً من المعلبات المعاد تدويرها.
“تيج وجورج يتسكعان في كراج ماري تريت. هل هذا مهم؟” يسأل ايانو ويلا. ولكن السؤال موجه في الواقع لقراء كينغسلوفر الذين يشجّعون على إستنتاج خلاصات واضحة ومحددة: أن أطفالهم هم مستقبلنا وأن الكوارث السياسية يجب أن تلهمنا للتأكيد على المسؤولية الفردية وأن أسرة المستقبل ستكون متعددة الأعراق وتجمع مسؤولاً مادياً وبيئياً مكوناً من مبدعين شباب.
نقحم بالتفكير أن بإمكاننا تغيير النظام السياسي والبيئي الإجتماعي وفق ما تقترح كينغسلوفر. ومثل عصافير داروين نستطيع التكيّف فقط معه ونتطور معه ونتابع التناسل تحت رعايته إلى أن يأتي اليوم الذي نصبح فيه جميعاً تحت الماء.
ولكن المثير للإكتئاب في هذه النهاية والذي يجعل الرواية عفا عليها الزمن عدم إدراك كينغسلوفر أن شكلاً من المستقبل الذي تتخيله هو موجود اليوم بين ظهرانينا، وأنه تجذر منذ تفكيك دولة الرعاية الإجتماعية والذي بدأ في السبعينات من القرن العشرين وترك العائلة أكثر عزلة في الكفاح لتأمين الغذاء والكساء والملاذ للأطفال.
وكذلك أخلاقيات المسؤولية الشخصية ومثل الإعتماد المحلي على الذات التي تعرضها كينغسلوفر كاستجابة تيج للتقلقل الإقتصادي والكارثة الإيكولوجية في ثمانينات القرن الماضي وقيم العائلة الليبيرالية الحديثة المتسترة بتحرر اليوم المعتمد على الذات.
وبالرغم من المعاصرة القاسية للأسماء الراهنة واقتناصها من عناوين الأخبار لنقاط حبكتها، فإن حاضر الرواية هو في الواقع تاريخنا، ومستقبلها هو ماضينا القريب، ولكنها لا تلامس مأزقنا الراهن.
ترجمة: إبراهيم عبدالله العلو