يوسف الصديق ماذا بعد سيّدتي الثورة؟ (سعيد خطيبي)
سعيد خطيبي
بعدما ألّب عليه الإسلاميين طوال العقد الماضي، يجد العلماني التونسي نفسه اليوم أمام نوع آخر من المضايقات. نقده للانتفاضة ومقالاته الدورية ومشاركته في مختلف التظاهرات المناهضة للرقابة والقمع في بلده، لا تعجب أنصار «النهضة». ورغم خيبته مما آلت إليه الأوضاع، إلا أنّه ما زال مؤمناً بأنّ «كل يوتوبيا مصيرها التحقق»
الكاتب والأنثروبولوجي التونسي يوسف الصديق لا يكفّ عن إثارة الجدل. بعدما حرّك طوال العقد الماضي، غضب بعض الجماعات الأصولية، بسبب قراءاته المعاصرة للقرﺁن، وتأويلاته للسيرة والحديث النبويين، ها هو صاحب «سوء الفهم الكبير» (2010) يجد نفسه اليوم معرّضاً للمضايقات في تونس ما بعد الثورة، ومضطراً إلى الدفاع عن نفسه أمام خصوم سابقين وﺁخرين جدد.
في تونس، يكاد يكون اسم يوسف الصديق (1943) الحاضر الأبرز بين مثقفي بلاد الطاهر بن عاشور. بين مدافع عن أطروحاته ومعارض لها، تفرّق الشارع التونسي، وصار ينظر الى الرجل في ملمحي الخصم والرفيق في ﺁن واحد. مقالاته الصحافية، وتعليقاته وإطلالاته التلفزيونية لا تمر من دون إثارة جدل. صاحب «وافد المساء» (2004) يعبر عن ﺁرائه حول راهن ومستقبل تونس ما بعد الثورة بصراحة وبحدة لا تعجب كثيرين، وخصوصاً أنصار حركة «النهضة». ﺁراء ﺃوجزها في كتاب «لنتحد! ــــ ثورات عربية للغاضبين» (منشورات لوب ـــ 2011). العمل عبارة عن حوار مطول أجراه معه الكاتب الفرنسي الشاب جيل فاندربوتن، وحمل توطئة موقَّعة باسم الكاتب والدبلوماسي الفرنسي ستيفان هيسيل صاحب Indignez-vous (عرّبته «دار الجمل» بعنوان «اغضبوا») الذي اعتبر الحوار مقدمةً مهمةً لفهم ما حدث في الضفة الجنوبية من المتوسط في مطلع السنة الماضية.
في تعليله لنجاح الثورة التونسية في وقت قياسي، ينطلق الصديق من حقيقة أنّ المجتمع التونسي ـــ على خلاف الكثير من المجتمعات العربية الأخرى ـــ مجتمع موحد ومتناسق، لم تفرّقه صراعات الأقليات، ولا تعصّب الفئات المهمّشة التي اندمجت في النسيج العام، ولم تزعزع البنية الصلبة لتونس واحدة. «هو بلد موحد عقائدياً حول المذهب الملكي. وبلد بأقليات عرقية صغيرة، اندمجت في الداخل». يناصر الصديق فرضية المؤامرة، والتخطيط المسبق للربيع التونسي حين يقول: «الولايات المتحدة الأميركية كانت تُعدّ منذ فترة لرحيل بن علي، ولتطوير تونس كبلد مستقر ومعتدل»، قبل أن يضيف: «لكنّ التوقيت وتركيبة النظام السابق لم يسعفاها في بلوغ الهدف الذي بلغه التونسيون في اليوم التاريخي المصادف في 14 ك2 (يناير) 2011». المتحدث يتكلّم عن الثورة التونسية من منطلق كونه فاعلاً ومعارضاً سياسياً اشتهر بنضاله في صفوف اليسار، ومواجهته الفكرية لرموز نظام زين العابدين بن علي. لقد حلم ــ مثل كثيرين ــ بثورة سلمية، يستعيد من خلالها التونسي كرامته المهدورة. تحقق حلم الثورة فعلاً، لكن ما جاء بعدها حمل الكثير من الخيبات. «أيام قليلة بعد الثورة، أعدت النظر في الواقع نقدياً. وجدت أنّ ثورة مضادة كانت تسير على نحو فظ»، مشيراً بالإصبع إلى أنصار بن علي الذين «ما زالوا يتمتعون بحظوة مهمة».
يوسف الصديق، ابن المدينة العتيقة في تونس العاصمة، يعتبر روحه الثورية امتداداً لروحه والده المكتبي المقاوم الذي عاش رافضاً الاستعمار الفرنسي، وسجن مرات عديدة، وحكم عليه بالأشغال الشاقة. يعتقد الصديق أنّ التاريخ يعيد نفسه، وأنّ بلاده لم تفقه دروس الماضي القريب. حلم تأسيس تونس حديثة بعد ثورة 2011 سبقه بحوالى نصف قرن إجهاض حلم مماثل بعيد الاستقلال، أُجهض حينها بسبب استبداد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة. «بعد الاستقلال، صار الحبيب بورقيبة ديكتاتوراً. كان مصلحاً، نقرّ له بالفضل في وضع قانون الأحوال الشخصية الذي حرّر المرأة، لكنه كان يحكم بيد من حديد في دولة بوليسية، حيث حرية التعبير وسوق الكتاب يخضعان لضغط ولرقابة» يقول الصديق. السياسة التي انتهجها بورقيبة دفعت الصديق إلى خط المعارضة. لم تكن معارضة سياسية مباشرة، بل نقدية فكرية. يعلّق «لستُ منخرطاً في الحركة السياسية النضالية، مثل بعض رفقائي الذين قاموا بذلك بكل جرأة وشجاعة، متحدين الديكتاتورية البربرية التي لم تتوانَ في اللجوء الى التعذيب». صاحب «أحاديث الإمام علي» (2000) الذي ترك تدريس الفلسفة في تونس في نهاية السبعينيات، بسبب تعريب المناهج التربوية «لمنع الأطفال من فهم كارل ماركس» قبل أن يتّجه للعمل في الصحافة الاستقصائية بضع سنوات، ثم يستقر في منفاه الاختياري في فرنسا، حيث عمل أستاذاً جامعياً، لا يرى وسيلة لتجاوز محاولات سلب الثورة التونسية ماهيتها سوى في الاتحاد. ويدعو في الوقت نفسه، شباب الربيع العربي من مختلف الدول الى توحيد رؤاهم والتواصل في ما بينهم، مصراً في النهاية على التأكيد أنّ «كل يوتوبيا مصيرها التحقق».
صحيفة الأخبار اللبنانية