صمت البحر: الحُب على خط النار

 

تكمنُ قوة الإبداع الروائي في تكثيف اللغة وإقتصاد في العبارة وعدم الإسهاب في الوصف الذي لا يكون إلا حشواً في مُعظم الأحيان، ولا يخدمُ مضمون ولا فكرة العمل، ولا يكشفُ عن انفعالات الشخصيات الروائية، إذا لم يهندس المؤلف هذا المكون السردي في سياقات مُناسبة، الأمر الذي يفتح النقاش على موضوع آخر وهو حجم الرواية، وتعامل الروائي مع المساحة، إذ لم تكنْ ضخامةَ الرواية واكتظاظها بالشخصيات معياراً لوجودتها بل ما يُحددُ نجاح أي عملِ هو التكنيك وطريقة عرض الفكرة.

لذلك فأنَّ الروايات المبنية على الإيجاز هي أصعبُ من كتابة الرواية الطويلة على حد تعبير الناقد المغربي سعيد يقطين، وذلك لضيق المجال في النوع الأول ما يفرضُ تعاملاً أكثر حساسية مع عناصر البناء الروائي، وذلك ما تراه في الروايات القصيرة التي أصبحتْ نموذجاً فنياً بارزاً (المسخ، لاعب الشطرنج، الشيخ والبحر، جميلة، قنديل أم هاشم، راوية الأفلام) على سبيل المثال.

كذلك بالنسبة لـ “صمت البحر” للكاتب الفرنسي فيركور الذي ألف هذا العمل الفريد تحت وطأة الإحتلال النازي، وأبرز ضرباً آخر من المقاومة وهو الإعتصام بالصمت ونسف جسر التواصل الكلامي مع المُحتل. هنا يركزُ الكاتبُ على العلاقة الهامدة ظاهرياً بين ضابط ألماني بوصفه ممثلاً للغزو الأجنبي وأسرة فرنسية مكونة من شخصين؛ رجل هرم وابنة أخيه اليافعة، لإبانة أعراض الإحتلال والهزيمة على المستوى الروحي، ومنْ ثُمَّ يظهر رؤية المُحتل لمن يتواطؤُ في التنازل عن سيادة بلده، وذلك يأتي في إطار ما يسردهُ الضابط الألماني فرنر فون أبرناك الذي يُعدُ شخصية مركبة، من جانب لا يخفي هذا الألماني تعصبه لبلده وإعجابه بتكوينه العرقي إذ يتوسمُ من الجيش تحقيق ما يشبه المعجزة، ومن جانب آخر يبدو شخصاً مُثقفاً رقيق المشاعر، إذ يبوحُ لمُضَيفه بأنَّ وهجة حبه لخطيبته قد انطفأتْ عندما وجدها تقتلُ بعوضة بطريقة سادية.

هدير الصمت

يقفزُ الكاتب على وقائع الإحتلال النازي لبلده، ولا يتتبعُ ما كان يعانيه الفرنسيون في ظل الإحتلال، كما لا يتوقف السرد عند تمثلات وجود النازيين في المدن الفرنسية، إنما يكونُ البيت البسيط لأسرة فرنسية مدخلاً أساسياً لرصد رد فعل الشخصين حيال الإحتلال الجاثم على صدر فرنسا، إذ يحلُ فرنر فون أبرناك ضيفاً على منزلِ واقع في إحدى مناطق فرنسية. كدارج عادة الألمانيين آنذاك فرضوا على السكان إستقبال الجنود في القرى والمدن التي لا تتوفر فيها مكان الإقامة. يسكنُ الضابطُ في غرفة المنزل المتواضع، ويتنفسُ الرجل الشيخُ صعداء بعدما يكتشفُ بأنَّ الغريب شخص مريح من خلال تصرفاته كما يزعم بأن ضيفهم ليس من أصل ألماني بل هو إبن مهاجر بروستنتي مستنداً في ذلك على تركيبة اسمه.

نتيجة لشحة الحوار في أجواء الرواية حتى بين الرجل وابنة أخيه لذا يكونُ سلوك الضابط وملامحه وانفعالاته بمرصاد عين الرجل وهو يقوم بوظيفة الراوي ناقلاً ما يسمعه من الضابط، هذا إضافة إلى الإهتمام بحاسة السمع من بداية الرواية، إذ يضعك الراوي في لحظة صعود الضابط إلى الغرفة متابعاً صوت وطأة أقدامه على السُلم، بعد مرور ليلة يحاولُ أن يتآلف مع الاثنين معبراً عن ارتياحه بالمكان، أزيد من ذلك فهو يطالع البيت من الخارج، ويبلغُ أصحاب البيت عن إعجابه بما اختار له الجنود من منزل رائع، ويمرُ اليومُ الأول دون أن يخلُ الرجل المسن بما تعاهد عليه مع ابنة أخيه بعدم تغير أي شيء في حياتهما، ما فتيءُ الضابطُ يسعى لاستدراج الاثنين إلى الحديث مؤكداً استعداده بأن يغير طريقة دخوله إلى البيت مراعاة لمشاعرهما، لكن ما يتلقى جواباً، وتستمرُ الحياة على هذا المنوال في كنف الصمت، دون أن يسرف الضابط بالحديث.

يقول قبل أن يغادرهما مع حلول الليل صاعداً الى غرفته: “اتمنى لكما ليلة سعيدةً”، لكن الأمر يتبدلُ عندما تسقطُ الثلوجُ، إذ بدأَ الألماني يقارنُ شتاء فرنسا بشتاء بلده، ومن هنا يتخذُ حديثهُ منحىً آخر، وكان يتودد إلى شخصين كاشفاً عما يكنهُ من الحب والإعجاب بفرنسا منذ طفولته، لافتاً إلى أنه ورث هذا الحب من والده. مشيراً إلى وطنية والده وإيمانه بجمهورية “فيمار وببريان” بينما يسردُ كل ذلك لا يصرف نظره عن الفتاة، لكن الرجل الشيخ يوضح بأنَّ نظرته أشبه بمن يتأملُ تمثالاً، ويذكرُ في هذا السياق أسماء مجموعة من السياسيين الألمانيين، كما يشيرُ إلى براعته في التأليف الموسيقى، وسفره لتعلم الموسيقى في سالزبورج وإفتتانه بثراء الأدب الفرنسي وتفوقه على الألمان والإنكليز.

ويتخللُ ذلك حديثه عن سمو الموسيقى الألماني وتجاوزها لما هو متعارف عليه. يضربُ مثالاً بقصة “الحسناء والوحش” عن دور الحب في إبراز أبعاد جمالية كامنة في كل كائن. وفي الوقت نفسه يعبرُ عن مقته لقسوة السياسيين، ومن جانب آخر تتنازع المشاعر المختلفة الرجل إذ يعلق على موقفه مع الألماني “ربما كان من غير الإنساني أن نرفض التحدث إليه لو بكلمة واحدة”.

الصدمة

لا يتحققُ بما كان يمنى النفس به (فرنر فون أبرناك) من عالم يتوحد فيه أوروبا وتنمو فيه القيم الإنسانية النبيلة، إذ توقع بأن ألمانيا ستستفيدُ قبل غيرها عندما تحسن الصنيع مع فرنسا وتعيد لها المجد والعظمة، بيد ما أن يقضي مدة إجازته في باريس حتى يسمعُ من أصدقائه ما يُحطم صرح أحلامه، وحين يعودُ إلى المنزل لا يكون الشخصُ نفسه يكاشفُ غريميه الصامتين بما نما إليه، بل سخر أصدقاؤه بقناعاته بتصديقه لما شاع في بداية الغزو، وعلم بقرار سلطة الإحتلال حظر وصول المؤلفات الثقافية الصادرة من فرنسا إلى بلدان أخرى.

ويحكي عن سوء تحول أخيه الذي كان رومانسيا شاعراً فإذا به يتلفظ كلمات لا تمت إلى قاموس الشعر بصلة مشحونة بالحقد. وفي اللقاء الأخير يعلن بأنَّه (ليس هناك أمل) يعترف بأنَّه خُدِع، ولا يتجاوز عتبة الباب من مكانه (وداعاً) مترقباً ردَّ الفتاة الشابة وأخيرا تنبسُ الفتاةُ شفتاها بصوت كتوم بكلمة، وآنذاك يستشفُ المتلقي مما يصوره الراوي عن وضعية الشابة عن حبِ دفين قد نما على إيقاع صمت.

تتلخصُ رسالة الرواية في جملة أن الحب يحتاج إلى طرفين متكافئين وتستحيل أن تكون المشاعر سويةً إذا ظهر طرف مقابل بزي عدو. يذكرُ أن هذه الرواية نشرت لأول مرة في باريس ويتستر مؤلفها وراء فيركور وهو اسم مُقاطعة فرنسية.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى