أماني الجندي في زورق “الأدب الشعبي”
تقرأ هذا الكتاب فتشعر كأنك في رحلة نهرية تمضي بك من القاهرة إلى أسوان ثم تعود بك بعد أن تكون قد استمتعت بمشاهدات وخيالات ومناسبات وعادات وتقاليد وطقوس وموسيقى أرغول يطعن الفضاء حتى ينبثق الصبح بأغاني البهجة والتفاؤل.
وكأنما ترى التكية والسبيل وتحدق في صندوق الدنيا ويأتيك السامر بالإنشاد وتنتثر من الشط على الماء آلاف من طيور الأمثلة الشعبية كتلك التي تدفع الحكام للظلم والطغيان، أو تلك التي تتسم باليأس والسخرية من الفوارق بين الطبقات، أو تلك القصص الشعبية التي تمجد الوفاء كقيمة إنسانية نبيلة عن دار الحوار للنشر والتوزيع باللاذقية صدر عام 2018 كتاب “الأدب الشعبي”، للدكتورة أماني الجندي، ذات الباع الطويل في مجال فنون الفرجة الشعبية وحكايات الجدات والمهتمة بمسرح الأطفال وقصصهم الشائقة.
وربما يكون هذا الكتاب مؤلَّفًا لكل الشعب أكثر مما هو للمتخصصين في هذا المجال من الدارسين أو الباحثين، بمعنى اهتمام الباحثة بتوصيل المعلومة إلى كل من يريد تذوق هذا المجال الرحب أيا كانت ثقافته ودرجة تعليمه، فهي تهدف إلى نشر هذه الأضواء في كل أرجاء وربوع ووجدانات الناس، وبالتالي فلا لوم عليها إن لم تثقل الصفحات بالمراجع أو ترهق ذهن القارئ بالغوامض من الأمور
بل تبدأ مقدمة كتابها موجهة خطابها الاستفهامي إلى القارئ برغبة تواقة لأن تشركه معها وتستحوذ على اهتمامه وتعطيه المجال الأرحب لاستقبال ما سيرد في هذا الكتاب:
في الأدب الشعبي
ضمير جمهوره ومرآته
“أبدأ قارئي بتساؤل مهم:
– هل نحن في حاجة – اليوم – لقراءة التراث الشعبي؟
ولا تجزمُ قاطعةً بالإجابة وكأنما تريد من القارئ أن يسبقها بقول نعم، وتلمِّحُ إلى ذلك تلميحًا:
“ويبدو أن الإجابة ستكون بنعم؛ لأن التراث الشعبي يمثل هذه الحلقة الذهبية التي تربط الماضي بالحاضر…”. ولأن أقصى ما يريده الشعب هو المستقبل، وبالتأكيد الحاضر الذي يتمخض عن مستقبل مشرق، حيث إن المستقبل مرتبط بالأولاد بينما الحاضر للجميع
وهنا يمكن نسيانُ الماضي، أو إعطاؤُهُ قيمة أقل، لكن الباحثة تسارع وتذكر القارئ بقولها: “فالمجتمع الذي ليس له ماض، ليس له حاضر ولا مستقبل”
تلك قيمة الماضي: إعطاء ركيزة قوية للحاضر والآتي.
وماذا فيه؟
تقول في نفس الصفحة:
“التراث الشعبي خزانة مملوءة بآثار الديانات والفلسفات والعقائد المتشابكة والمتداخلة بين المجتمع وغيره من المجتمعات الإنسانية”.
إذن تحاول الباحثة غرسَ الانتماء للكوكب الذي نعيش فوق سطحه بكل ما فيه من اختلاف حضاراتٍ علينا أن نأخذها وأهلها بروح التسامح والتعددية التي لا غنى عنها تخرج الباحثة من المقدمة لتخل مباشرة في عالم “الفرجة الشعبية” وفنونها الشاملة “من موسيقى ورقص وغناء وإنشاد أو سرد وحكي”، وما تهدف إليه من “تسلية الجماهير العريضة باستعراضات وألعاب وحكايات تشد انتباههم وتصرفاتهم ولو مؤقتا عن هموم الحياة ومتاعب العيش” ومنها الأشكال المرتبطة بالدراما عامة والعرائس خاصة”.
وهنا يبرز دور “المقلداتي” الذي هو “ضمير جمهوره ومرآته” على حد وصف الجندي، ولم لا وهو الأوحد في هذا الفن مُؤلفًا ومخرجًا ومتصرفًا أيضًا وخارجًا عن النص الذي قدمه في المرة السابقة!
وفي نفس الفصل يتطرق الحديث إلى صندوق الدنيا، والسامر، والمحبظين، وخيال الظل، والأراجوز الذي يعتمد على تقنية التقليد الصوتي والتمثل غير المباشر بالدمى والارتجال في تحاور الشخوص” ولا تنسى الباحثة ذكر اسم الفنان محمود شكوكو الذي استطاع “أن ينقل هذا الفن من المناطق الشعبية ليعرض على المسارح وعلى أبناء الطبقات الغنية والحاكمة في العصر الحديث”.
ندلف إلى الفصل الثالث المعنون بـ “الرواة” فتفرق بين الراوي والقاص وتعدد أشكال الرواة فمنهم الهواة ومنهم “الشعرا” وثمة المحدثون وثمة العناترة وأيضا المنشدون. لندخل في فصل آخر من الكتاب يتعرض لـ “الضحك في الثقافة الشعبية” فنجد الدكتورة أماني الجندي تصف الضحك بأنه “فضيلة إنسانية”، لتصل إلى هذه القاعدة التفسيرية:
“وكلما طغت عصور الظلام والفساد على البشرية تملكت الإنسان روح التهكم والفكاهة من عسف الحكام وظلم الطغاة”. وتضرب مثالا على ذلك بأسطورة فرعونية تقول إن العالم خلق من الضحك؛ فحين أراد الإله أن يخلق العالم أطلق ضحكة قوية فكانت أرجاء العالم السبعة، ثم أطلق ضحكة ثانية فكان النور، وتؤكد المؤلفة وهي على حق في ذلك على أن أهم ما يميز المصريين روح الفكاهة المنبثة في أحاديثهم”.
يأتي بعد ذلك فصل “القوالون ومقامات الوجد” لتقول: “على طريق الوصول إلى الله أقام الصوفية للفن الغنائي دولة لها طابعها الخاص وشخصيتها المميزة، ولها تأثيرها وسحرها في النفوس والقلوب”.
ويمضي الكتاب سهلا نَدِيًّا وجاذبًا ليطالعنا الصباح وأغانيه بعد الليل وأرغوله لندلف إلى عالم “السحر في المعتقد الشعبي” حيث ينظر إليه لتحقيق وفرة الصيد وفي تيسير عملية الولادة، ومساعدة العاقر على الحمل، وتتبع الباحثة السحر في الحبشة ومصر القديمة، ومن الأدب الشعبي تبرز “افتح يا سمسم” السحرية التي ينصاع لها الباب الثقيل فيتحرك. وربما تكون “الرقى” فعالة لإبعاد الأرواح الشريرة عن المرضى عن طريق طقوس العلاج السحري”.
ولا تبخل الباحثة على قارئها باستحضار العديد من المواقف الأوروبية لتقارن بينها وبين ما ورد في أدبنا الشعبي وخاصة في الفصل المتعلق بـ “قيمة الوفاء في السير الشعبية” ولهذا جاءت بـ “السير” في صيغة الجمع حتى يتسنى لها أن تزج بأدب العصور الوسطى الأوروبية لتضفي الثراء والامتداد على مؤلفها الجميل الذي نحن بصدد قراءته.
ثمة فصول أخرى مهمة في هذا الكتاب تتناول “الخلود والنشور”، و”صلة الدم والرحم في الأدب الشعبي”، و”الحيوان في التراث الشعبي”، و”وفاء النيل عند قدماء المصريين” لنتذكر الرحلة التي نقوم بها في أرجاء هذا الكتاب وكأنما تصف الباحثة حالنا بقولها:
“أما النيل فكانت المراكب الشراعية في ألوان فاقعة تروح وتغدو فوق سطحه، والناس في فرح، وعلى كل سفينة عازف سنشارف النهاية ونترك الكتاب بعد إتمام قراءته لكن ذلك العازف سيظل يعزف على أرغوله في فضائنا الروحي المتشوق لِمَزيد.
ميدل إيست أون لاين