“جيوش الرمل”: ماضي وحاضر ومستقبل الجيوش العربية
يطرح الباحث الأميركي كينيث بولاك في كتابه الجديد “جيوش الرمل” أسباب الفشل العسكري العربي في جميع الحروب العربية. وقد كتب الكاتب الأميركي دوف زاكيم قراءة نقدية للكتاب نشرت في موقع “ذا ناشيونال انترست” الأميركي، نقلها إلى العربية إبراهيم عبد الله العلو. والآتي ترجمة نص المراجعة:
لماذا فشلت الجيوش العربية؟
عانت الجيوش العربية من ضعف الأداء سواء في محاربة الجيش الإسرائيلي في أعوام 1948 و1956 و1967 و1973 والجيش الإيراني في الثمانينات من القرن العشرين والتحالف الأميركي في حروب الخليج واندحرت أمام جيش تشاد في عام 1987 وفشلت في إنجاز أهدافها العسكرية.
يحاول كينيث بولاك وهو الخبير المخضرم في سياسات الشرق الأوسط وشؤونه العسكرية تحديد الأسباب الكامنة خلف ذلك في كتابه الموسوعي: “جيوش الرمل”.
يركز بولاك على العوامل السياسية والثقافية ويعتبرها المسبب الرئيسي للفشل العسكري العربي. ويشير إلى مسببات الوهن العربي في ميادين المعارك في القرن الماضي ويقول:
“مما لا شك فيه أن أعظم مشكلة تواجه القوات المسلحة العربية منذ عام 1945 هي الأداء الضعيف لضباطه الشباب. فشل القادة التكتيكيون من حرب إلى حرب ومن دولة إلى دولة في إظهار المبادرة والمرونة والإبداعية والتفكير المستقل وتفهم تكامل الأسلحة المشتركة وتقدير منافع المناورة في ميدان المعركة”.
يضيف بولاك لاحقاً عيوباً عدة تنطبق على المعركة الجوية العربية: “مقدرات قتالية جوية ضعيفة وضعف في مهارات التعامل مع السلاح وممارسات الصيانة.”
ويخصص مجمل كتابه لتفسير ذلك. ويرفض التفسيرات الأربعة السابقة المبررة للفشل العربي مثل نقص المبادرة بسبب تأثير التدريب السوفياتي للقوات المسلحة منذ خمسينات القرن الماضي حتى انهيار الاتحاد السوفياتي، وتسييس الجيوش العربية من قبل حكوماتها الاستبدادية، وتأثير التخلف الاقتصادي على الأداء العسكري، والجبن العربي في أرض المعركة.
يقدم بولاك دفاعاً قوياً تجاه القائلين إن جمود طريقة الحرب السوفياتية أضعف المبادرة التكتيكية العملياتية العربية. ويشير إلى أن الجيوش العربية الخمسة المندحرة أمام المقاتلين اليهود المفتقدين للتدريب الناجح والأقل عدداً وعدة في حرب 1948 لم تخضع لأي تدريب من قبل الاتحاد السوفياتي.
ومن بين الجيوش الأكثر احترافية آنذاك خضع الفيلق الأردني العربي لتدريب البريطاني جون غلوب وتلقت الجيوش الأخرى، هذا إن تلقى جنودها أي تدريب ابتداءً، بعض العقائد القتالية الغربية- الفرنسية والبريطانية وحتى العثمانية.
لا يشير بولاك إلى طبيعة هذه العقائد والتكتيكات والتدريب بشكل مفصل ولكنه يشير ضمناً إلى أنها كانت على النقيض من آلية فاعلية العرب في أرض المعركة.
تلقى الجيشان المصري والسوري مع حلول وقت حرب “الأيام الستة” في عام 1967 بعض المعدات السوفياتية على مدى سنوات عدة. وبالرغم من ذلك يشير بولاك إلى أن المصريين والسوريين لم يكونوا قد استوعبوا بعد بشكل كامل التكتيك والعقيدة السوفياتيين بينما تابعت التكتيكات والعمليات الأردنية تأثرها ببريطانيا العظمى.
كان نتائج الحرب مماثلاً لحرب 1948 وحملة العدوان الثلاثي عام 1956 في سيناء.
قامت “إسرائيل” التي شكلت قوة عسكرية متطورة وضاربة بتدمير القوات الجوية العربية خلال 48 ساعة والقوات البرية المصرية والأردنية والسورية خلال أيام قليلة تالية.
تعرضت الجيوش العربية للإذلال مرة أخرى ولكن الخطأ لم يكن خطأ السوفيات أو عقائدهم القتالية.
تبنت القوات المسلحة المصرية بشكل كامل العقيدة السوفياتية وتكتيكاتها في حرب 1973 وكانت ناجحة إلى حد ما.
تمكن الجيش الاسرائيلي من تطويق الجيش المصري الثالث داخل مصر بسبب حنكة الإسرائيليين وفشل القيادة المصرية العليا في تخطي التخطيط الرسمي الذي حجم النجاح العسكري الابتدائي بعد مفاجأة الإسرائيليين بدلاً من قصور العقيدة السوفياتية.
كما أن الحذر الزائد لدى القادة التكتيكيين في سوريا قلل من شأن نجاح إختراق الجيش السوري للخطوط الإسرائيلية في الجولان السوري. ولو تمكنت القوات السورية من الاستيلاء على الجسور الثلاثة على نهر الأردن لحظيت بموقع رائع للحفاظ على الجولان أو تجاوز الخط الأخضر إلى داخل “إسرائيل”. ولكن القادة السوريين لم يحاولوا الاستيلاء على الجسور مما وفر للإسرائيليين وقتاً ثميناً لجلب التعزيزات التي مكّنتهم لاحقاً من دفع السوريين نحو دمشق.
ويضيف بولاك: “شكك الخبراء السوفيات في سوريا بأن الألوية السورية ستتوقف دون الاستيلاء على الجسور عندما كانت قريبة منها ولم تواجه مقاومة إسرائيلية كبيرة وكانت الجسور هي المفتاح للحرب برّمتها. كان ذلك معاكساً بالكامل لمعظم مبادئ العقيدة السوفياتية.”
يشير بولاك في مقال صدر بعد الحرب بأربعة عقود إلى تصريح وزير الدفاع السوري الأسبق مصطفى طلاس الذي استغرب من إساءة حكم القادة الميدانيين على الوضع الميداني.
ثم يخصص بولاك فصلاً كاملاً لمناقشة فعالية الجيشين الكوبي والكوري الشمالي خلال الحربين الأهليتين الأنغولية والكورية لإثبات أن التدريب السوفياتي والعقيدة القتالية السوفياتية لم تكونا المسبب للعجز العسكري العربي.
ثم يتطرق الكاتب إلى العلاقة بين الحكم المدني والعسكري ويرى أن الجيوش المسيّسة هي تلك الجيوش “التي تعاني من مصاعب في العلاقة بين سلسلة القيادة المدنية والعسكرية”. وينظم ما يسميه “التسييس” في ثلاثة مجموعات ثانوية:
“الإمبراطورية” نسبة إلى الحرس الروماني الإمبراطوري الذي عيّن وفصّل الأباطرة. و”التفويضية” نسبة إلى النظام السوفياتي لإدماج المراقبين السياسيين في القوات المسلحة. و”حراس القصر” أي توظيف القوات المسلحة بشكل أساسي لحماية وحراسة النظام من التهديدات الداخلية.
يؤكد بولاك أن لكل ميزة من هذه المجموعات الثانوية آثاراً سلبية على الأداء العسكري وخاصة المعنوي ولكن لا يفسّر أي منها بشكل حاسم العجز العسكري العربي.
يقول بولاك إن الانقلابات العسكرية المتواصلة خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي أثّرت بلا شك على الأداء العسكري العربي خلال تلك السنوات. ولدى اشارته إلى “الإمبراطورية” يقول إنها لم تكن السبب الطاغي للفشل العسكري، ولا يشير إلى أنه منذ أواخر الستينات حتى ما سمي بـ”الربيع العربي” الذي لم ينبثق من القوات المسلحة كانت الأنظمة العربية مستقرة بشكل لافت ولكن جيوشها لم تكن بذلك النجاح.
وربما فشل بولاك في التركيز على هذه الظاهرة لأنه استقى معلوماته من مصادر وملاحظات عفا عليها الزمن. وهو يشير إلى الأداء المصري في حرب أكتوبر 1973 ويكرر ما قاله في فصل سابق ولكنه يفشل في ملاحظة أهمية جسر الإمداد الجوي الأميركي الذي كانت “إسرائيل” في أمس الحاجة إليه لرد الهجوم المصري في سيناء.
يخصص بولاك فصلاً كاملاً لآثار التسييس على مسار العمليات العسكرية العراقية في حرب السنوات الثمانية مع إيران وحرب الخليج عام 1991 وانهيار الجيش العراقي عام 2014 أمام هجوم داعش. ولكنه لا يلتفت كثيراً إلى الأداء العراقي في مواجهة التحالف الأميركي عام 2003.
ويظهر بولاك أن تسييس الجيشين المصري والعراقي قد أعاق أداءهما في ساحات القتال. كما أن تحشيدها خلال المعارك لم يؤدِ إلا إلى تحسينات عملياتية وتكتيكية هامشية. ويؤخذ على بولاك تركيزه على الصراعات القديمة من دون البحث المعمق في الصراعات الأحدث في تلك المنطقة.
يعترف بولاك بأن “العديد من الهزائم الكارثية للجيوش العربية تزامنت مع القوات المسلحة الأكثر تسييساً”.
ثم يبحث بولاك في فصلين تاليين عمليات جيوش غير عربية- أي جنوب فيتنام والجيش الأرجنتيني في حرب الفوكلاند- لاظهار أن التسييس لا يؤدي بالضرورة إلى الانتقاص من الأداء العسكري التكتيكي. ويبدو أن هذه النقاشات تثبت وجود بعض التزامن السلبي بين التسييس والأداء الميداني أي أن المستويات الأعلى من التسييس لا ترتبط بالهزيمة كما يحاجج في حالة الجيوش العربية. وعلى غرار نقاشه السابق للعمليات الكوبية والكورية الشمالية يغوص بولاك بشكل أعمق من اللازم في تفاصيل حرب فيتنام والفوكلاند لإثبات أن القوات المسيّسة تستطيع تقديم أداء جيد في المعركة.
يدحض بولاك الفكرة القائلة إن الأداء العسكري العربي الواهن نتج عن التخلف الاقتصادي للمجتمعات العربية. ويقول إن التخلف الاقتصادي لا يبرر بشكل كامل العجز الكامل للجيوش العربية. ولكنه لا يقدم تحليلاً معمقاً لهذه الفرضية.
ثم يقدم بولاك للقارئ جدولاً بعنوان “التطور الاقتصادي والاجتماعي لبعض الدول العربية وغير العربية” وتشمل المتغيرات التي يوردها إجمالي الناتج المحلي والتعليم ووفيات الأطفال والعمر المتوقع ونسبة العاملين في الزراعة ونسبة الأطباء لعدد السكان وتعداد السيارات والهواتف. ولكنه لا يحلل أياً من تلك العوامل كان صاحب التأثير الأكبر على الأداء العسكري. مثلاً هل يقاتل المزارعون بشكل أشجع من سكان المدن؟
ولا يعكس إجمالي الناتج المحلي لمعظم الاقتصادات العربية –باستثناء الدول الخليجية الأصغر حجماً- التوزيع الطبيعي للغنى الفردي. حيث تنحرف هذه الاقتصادات بشكل مكثف تجاه نخبة صغيرة وغالبية فقيرة وطبقة وسطى مهملة.
يقدم بولاك جدولاً مماثلاً لمقارنة اقتصاد ليبيا وتشاد التي تعتبر إحدى أفقر الدول على الأرض. ويشير إلى أنه وفقاً للإحصائيات الاقتصادية المقارنة يجب أن تسحق ليبيا الأكثر تطوراً وغنى القوات التشادية، ولكن ذلك لم يحدث قط. وعوضاً عن ذلك تمكنت تشاد من صد كل محاولات الاختراق الليبية منذ سبعينات وثمانينات القرن العشرين.
ولكن بولاك يفشل في الأخذ بعين الاعتبار شذوذ توزيع الدخل الذي تعاني منه الدول العربية. هل حضرت القوات الليبية من القسم الأكثر ثراءً بين السكان؟ وإذا لم يكن ذلك صحيحاً هل يعزى ضعف الأداء إلى العجز والتسييس المكثف من قبل نظام القذافي وغياب المعنويات التي اندحرت أمام الضعف الاقتصادي التشادي؟.
يشير بولاك بسطحية إلى التدخل الفرنسي وإلى درجة أقل الأميركي لصالح تشاد. ولكن بالرغم من تلك التدخلات وخاصة الفرنسية الجوية والأرضية كان من المفترض دحر ليبيا للقوات التشادية. أخيراً وبالرغم من ذلك الفصل المطول، لا يقدم بولاك أي استنتاجات لتأثير تلك العوامل المتنوعة للتطور الاقتصادي أو غيابه بشكل مباشر أو غير مباشر على العمليات الفعلية للقوات المسلحة المعادية.
ولتدعيم حجته بأن التخلف الاقتصادي لا يتوافق مع الأداء العسكري يقدم بولاك مناقشة ارتجاعية لأداء “جيش التحرير الشعبي” الصيني المثير للإعجاب ضد القوات الكورية الجنوبية وقوات الأمم المتحدة بعد دخول بكين الحرب الكورية. ولكنه لم يذكر أن “جيش التحرير الشعبي” كان مدججاً بمحاربين سابقين من الحرب الأهلية الصينية التي انتهت قبل عامين من ذلك التوقيت.
هزم أولئك الرجال قوات كاي شيك كومينتانغ عبر تطوير مفاهيم عملياتية وتكتيكية لم تعتمد على المعدات الحديثة التي لم تمتلكها جمهورية الصين الشعبية. ومن دون تحليل إضافي يصعب تقييم مدى تأثير ذلك العامل على الأداء الصيني.
يركز بولاك على العلاقة الممكنة بين التطور الاقتصادي وأداء سوريا في حروبها العديدة مع “إسرائيل” ولكنه يتجاهل تماماً الدروس المستفادة من تأثير التطور الإقتصادي على النجاح العسكري، الذي تعلمه من هزيمة العراق عام 2003 ومواجهة حزب الله مع “إسرائيل” عام 2006 والأداء الضعيف للقوات السعودية في عملياتها المستمرة ضد الحوثيين في اليمن.
يتوجه بولاك بعد ذلك إلى العوامل الثقافية بعد أن أثبت أن تأثير التكتيك والعمليات السوفياتية وأنماط التسييس والتخلف الاقتصادي لم تكن المسبب الأساسي لضعف الأداء العربي العسكري.
ويشير إلى أن “هناك حجة قوية تقول إن الضعف الأساسي الذي عانت منه القوات المسلحة العربية منذ عام 1945 يعود إلى أنماط السلوك المحفزة ثقافياً والتي أفرزتها عمليات التعليم العربية.” ويضيف أن العاملين الأساسيين المؤثرين على المقدرة القتالية، أي التكنولوجيا والتنظيم، بحيث يصعب السيطرة على الأخير بينما تأتي التكنولوجيا غالباً “إلى الوجود لأسباب لا تتعلق كثيراً بصناعة الحرب ونادراً في اللحظة الملائمة للقادة الحربيين.”
ويشير الباحث إلى أن القنبلة الذرية والطائرات القتالية بُنيت على أبحاث أساسية لم تتوجه أساساً للإحتياجات العسكرية. ويؤكد أن التنظيم العسكري فقط هو المقاد بالأعمال الحربية.
يدعو تأكيد بولاك على أن التطور التكنولوجي لا يرتبط بشكل مباشر باحتياجات أرض المعركة إلى المزيد من التمحيص. تبدو حجة بولاك ذات مصداقية في البداية إلى أن يلحظ المرء الأنظمة العديدة التي تطورت خصيصاً لتلبية الاحتياجات العسكرية. يشمل ذلك الصواريخ الموجهة وطائرة الشبح ونظام التتبع العالمي وسلاح الباريوم الحراري والانترنيت.
وباستثناء الصواريخ التي استخدمها الألمان أولاً في الحرب العالمية الثانية نتجت جميع المنتجات اللاحقة بجهود الولايات المتحدة عبر وكالة مشاريع الدفاع المتطورة أو في حالة الشبح من القاعدة الدفاعية الصناعية الأميركية لتلبية الاحتياجات العسكرية.
يؤكد بولاك “أن ما يهم هو مدى تمازج هذه المزايا المقادة ثقافياً مع التكنولوجيا والتنظيم(بما في ذلك التكتيك) المستخدم”، من قبل الجيوش في أي وقت من الأوقات. وبعد الاستشهاد بأمثلة تاريخية لإثبات وجهة نظره يقول بولاك إن “مهمة الجنرال اليوم هي تحويل الانتصارات العسكرية المكتسبة من قبل مرؤوسيه إلى انتصارات استراتيجية من خلال اختراق خطوط العدو الأولية وتوجيه الخدمات الاحتياطية والخلفية والمحيطة أو التسبّب بالانهيار اللوجستي والسيكولوجي لجيش العدو”.
يقدم بولاك بعد ذلك أهمية الثقافة وشرحاً مستفيضاً لطبيعة الثقافة وتأثيرها على السلوك الإنساني. ثم يدلف إلى مناطق تتعدى ما يتوقعه القارئ المهتم بالقوات العسكرية العربية مثل “بعكس الحكمة الشائعة كانت الأديان ناتجاً أساسياً للثقافة وحتى وعاءً لها.”
ويعترف بولاك بأن “الثقافة قد تكون موضوعاً ضبابياً” ويعاملها “بأسلوب مفصل ومنحاز أكثر مما تستحق وإلى حد ما فإن هذه الاختزالية قد تكون مشوّهة لمعالجتي للثقافة.”
إذاً كيف يستطيع بولاك تأكيد أن الثقافة هي العامل الأساسي المعوّق للأداء العسكري العربي؟
يقول بولاك إن هناك العديد من المزايا الثقافية الفردية التي تفسّر ضعف الأداء العسكري العربي وهي:
أولاً: الإذعان والذي يؤكد بولاك أنه يحد من الإبداعية والإبتكارية. ويشير إلى دراسات لحياة القرية المصرية والأردنية، ويشير إلى قول الشاعر السوري أحمد علي سعيد بأن “المبدعين أخرسوا بينما تم الحفاظ على القيم والتوجهات الجامدة.”
ثم يشير بولاك إلى عامل ثقافي آخر ينتشر على نطاق واسع في العالم العربي: “قوى الشرف والعار”، التي تحمي مركزية السلطة وإجلالها وسلبية المرؤوسين التي تصاحب مثل ذلك السلوك. ويلفت إلى العديد من الدراسات لإثبات وجهة نظره مشيراً إلى أهمية السلطة في البيوت العربية. يقول: “يتعلم الصغار مبكراً إطاعة أوامر الآباء من دون مناقشتها…”
يعتبر بولاك أن “الولاء للجماعة” هي الصفة الثالثة التي تسود في الثقافة العربية. ويستند في تقديره ذلك إلى العديد من الدراسات التي تؤكد “أن الفردية ذات قيمة إيجابية بسيطة في المجتمع المصري”، ودراسة أخرى تقول “إن الولاء للأقارب في الريف الأردني متوقع في كل الأوقات وكل الظروف”.
يشير بولاك إلى ميزة ثقافية أخرى وهي التلاعب بالمعلومات. ويذكر أيضاً دراسات عدة ومن بينها دراسة تقول إن الطلاب العرب في الجامعات الأميركية يقومون بالغش أكثر من أقرانهم الأميركيين.
ويستنبط بولاك تعبير “تذرير المعرفة” لوصف ميزة عربية أخرى. ويقصد بالتعبير عجز العرب عن إدماج التفاصيل في “مجموع مركب وحسن التنظيم.” ويشير إلى تقرير من مؤسسة راند البحثية التي تفيد أن الطلاب العرب أبلوا بلاءً حسناً في الإختبارات الشاملة للحفظ(الاستظهار) ولكنهم تراجعوا في الإمتحانات المرتكزة على المقارنات والتي تقيس المقدرة على التعميم.
وأخيراً يلاحظ بولاك أن العرب يظهرون شجاعة فردية ولكنهم متأرجحون في العمل اليدوي التقني.
وباستثناء الشجاعة الفردية التي تلعب دوراً ريادياً في الحرب، يقول بولاك إن جميع المزايا الآنفة الذكر تحجم مقدرة الجيوش العربية على النجاح في ميدان المعركة أو القتال الجوي. وعلى سبيل المثال يرتبط “الشرف والعار مع السلبية وخاصة بين المرؤوسين والتي بدت ظاهرة في القوات المسلحة العربية الحديثة.” كما أن الرغبة “بتفادي التلفظ بأي إهانة أو إساءة وتحويل اللوم عبر السرية والمبالغة والخداع أو الكتمان تماثل النقل الضعيف للمعلومات عبر سلسلة القيادة والتي مثّلتها القوات المسلحة العربية.”
كما أن الميل للتلاعب بالمعلومات دفع بالقادة الكبار في السلسلة العربية إلى حجب المعلومات عن المرؤوسين.
يقول بولاك إن هذه العوامل الثقافية تفسّر تردد القوات العربية في استخدام المناورة على المستويات العملياتية والتكتيكية. كما أنها تشرح عجز الجيوش العربية عن الابتكار أو القيام بعمليات خاصة مع تغيّر الظروف. وبدلاً عن ذلك نجحت وإن نادراً لدى القيام بخطط عسكرية محددة في المعارك.
تفسّر “هذه العوامل مع التباين في المواضيع التقنية” المشاكل العربية في القيام بعمليات جوية وجوية – أرضية مشتركة.
ومن ناحية أخرى ترعى الثقافة العربية الشجاعة الفردية والتعاون القوي ضمن الوحدة في الميدان.
يعترف بولاك بأن الثقافة العربية لا تفسّر السلوك العسكري وبالتحديد العمليات المرتبطة بالتكنولوجيا والتي أظهر فيها العرب بعض المقدرات بالرغم من عزوفهم عن المواضيع التقنية والعمل اليدوي.
أنجزت الجيوش العربية سجلاً ضعيفاَ في الحفاظ على معداتها ولكنها “فاقت كل التوقعات .. في المجالات اللوجستية وهندسة المعركة.”
ويستنتج الباحث استناجاً مبهماً ويقول “لقد حدث شيء ما ساعد الجيوش العربية”. ولذلك يقول إنه كان للثقافة والتخلف وضعف التعليم أو التعليم الاستظهاري أعظم تأثير على الأداء الضعيف للرتب الأدنى بينما كان للتسييس الأثر الأكبر على الرتب العليا وبالتحديد العقداء والجنرالات المتمتعين بتعليم أفضل وأقل تأثراً بالقيود المحفزة ثقافياً. وربما استطاع القول إن معظم المهندسين العرب لا يدخلون المجال الهندسي المهني ولكنه لاحظ أن تلك الشهادة العلمية هي من بين الشهادات الأكثر رغبة في العالم العربي. ومن الممكن القول إن المهندسين العسكريين القتاليين العرب حصلوا على شهادات هندسية وفعلوا ذلك بمهنية ملحوظة.
يظهر بولاك أيضاً أن الأنماط الثقافية المطبقة في التعليم على مستوى المجتمع العربي ككل كانت ذات تأثير هائل القوة على طرق التدريب العربي ويضيف قائلاً: “لو قامت الجيوش العربية بتدريب رجالها بطريقة تختلف عن طرق التعليم السائدة في المجتمع الأعرض لكان ذلك مثيراً للإهتمام.” ويتابع: “يجب أن لا تؤثر طرق التعليم في مجتمع ما على التدريب العسكري. وعلى سبيل المثال يختلف التدريب الأساسي الأميركي وخاصة في القوات البرية والبحرية عن بقية تدريس المجتمع الأميركي ككل”.
لاحظ المحللون العسكريون الأميركيون أن القوات البحرية في أميركا اللاتينية تعمل فقط “حسب الكتاب” (التعليمات) ولا تظهر أي مبادرة أو خيال. هل تشابه الثقافة التدريسية في أميركا اللاتينية الأسلوب الذي يدرس فيه الأطفال العرب؟.
وبالرغم من أنه يتساءل عن الأداء العسكري غير العربي وعلاقته بالتسييس والتنمية الاقتصادية، ولكنه لا يفعل ذلك لدى مناقشته للثقافة. فهو يفترض أن الثقافة العربية وتأثيرها على القوات المسلحة متفرد ولكنه لا يقدم أي دليل داعم في ذلك الاعتبار.
ثم ينظر بولاك للرابطة بين الثقافة العربية وتجارب المنظمات المدنية في العالم العربي الحكومية منها أو غير الحكومية. واستند إلى الدراسات العديدة لسلوك المنظمات العربية وأظهر أن البيروقراطيات العربية الرسمية تعرض نفس السلوكيات المقادة ثقافياً على غرار أقرانها العسكرية. وينطبق ذلك على السلوكيات في المصانع والجامعات والشركات والأعمال الصغيرة. وهناك تفاوت بين تأثير الثقافة والعوامل الأخرى على المستويات الأدنى من البيروقراطية(أو الشركات أو الجامعات) والمستويات الإدارية العليا.
لا شك أن أطروحة بولاك الكلية تشرح الأداء العربي العسكري في القرن العشرين. ولكن الأقل وضوحاً إمكانية قياس العوامل المتعددة التي يحددها سبباً للفشل العسكري العربي بنفس الطريقة في الحاضر أو المستقبل كما كانت في الماضي.
يتحول بولاك بعد ذلك إلى أداء حزب الله في مواجهاته المتعددة مع “إسرائيل” التي بلغت ذروتها في حرب عام 2006 والنجاح الابتدائي لتنظيم داعش في سوريا والعراق. ويقول أولاً، من دون إنتاج أي دليل مباشر، في مقابل كل فاعل عربي غير حكومي كانت هناك “دزينة” من الفشل. ثم يذهب إلى شرح نجاح حزب الله بمعايير الحماسة الدينية والأيديولوجيا والاعتماد على العائلة والعشيرة والتي حاجج سابقاً أنها من العوامل المحجمة للنجاعة العسكرية العربية. وينحو إلى التقليل من الدعم الإيراني لحزب الله بالرغم من كونه الدافع الأكبر للضربات الإسرائيلية في سوريا. ويشير إلى طبيعة حزب الله النخبوية كمسبب آخر لنجاحه رغم أنه أكد سابقاً أن “النخبوية” ذات تأثير هامشي على الأداء العسكري العربي.
يشير بولاك إلى الحماس الديني لدى “داعش” كعامل أساسي لنجاحها الابتدائي. وكذلك كان استيعاب الحركة للمقاتلين الأجانب وتنظيمها الخلوي ومسار عملياتها التي توصف بالحرب غير التقليدية وإخلاص المجموعة وشجاعتها التي هي عناصر أساسية للثقافة العربية. ولاحظ أيضاً أن “داعش” واجه أعداء فقراء، نفس القوات العربية التي هي موضوع هذه الدراسة.
يقول بولاك إن حزب الله و”داعش”، مثلهم مثل القوات المسلحة في الحالات الأربعة التي وصفها مسبقاً، قد أنجزا النجاح عبر التغلب على التوقعات الثقافية المتأصلة.
يشير التحليل إلى الأثر الإيجابي لأدائهم لبعض عناصر الثقافة سيان الحماسة الدينية أو الشجاعة أو الولاء للجماعة. وبما أنه لا يقدم أي تحليل كمي متعدد ومتنوع لا يوجد طريقة لمعرفة درجة العوامل الثقافية الإيجابية أو غير الثقافية الأكثر أهمية في تفسير أداء هذه الجماعات.
يوجد من ناحية التحليل التاريخي الكثير لتحميله من مجلد بولاك. وبالنسبة للقائمة الطويلة من الحروب الخمسين التي يقدمها في بداية كتابه كان عدد الصراعات الذي يناقشها والتي يعود إليها في فصل تلو آخر صغير نسبياً. ويفتقد نقاشه بأن الثقافة هي العامل الأكثر أهمية من بين تلك العوامل إلى الدعم الكمي بحيث يصبح نقاشاً حاسماً.
الميادين نت