متلازمة الإبداع والمكسب وسينما الواقعية الجديدة

 

السينما” كمصطلح هي تعريف لمتلازمة الفن والإبداع والمكسب، مع مراعاة الترتيب. السينما كصناعة هي مارد الفانوس السحري الذي بإمكانه تحويل التراب إلى ذهب. ولقد كانت المكاسب الجمة التي يمكن جنيها من جراء العمل في صناعة السينما هي من أهم العوامل التى جذبت الكثير من أصحاب الأموال، ورجال الأعمال للاستثمار في فن صناعة السينما للتمتع بمكاسبها السريعة، وكذلك الدخول لعالمها البراق.

فبجانب اعتبار فن صناعة السينما آلة لتصنيع الأموال بسرعة مذهلة، هي أيضاً مدخل لعالم الشهرة، والتنقل، والأسفار، والاختلاط بأجناس، وعقليات مختلفة، وكذلك الحفلات، والسهرات مع أكبر ذوي المناصب، ليس فقط على الصعيد المحلي، ولكن أيضاً على الصعيد الدولي. لذلك دخل في غمار هذه الصناعة عقليات اقتصادية فذة، واستثمروا فيها بكل قوة. ويذكر، أن ليس جميع المستثمرين بصناعة السينما من المؤمنين الجيدين بالفن والإبداع، لقد كان الكثير منهم من المؤمنين بالمكسب السريع، والتمتع بعالم موازٍ، لا يمكن أن يوجد إلا من خلال هذا المجال.

وكرجال صناعة وأصحاب أموال، وجد منتجو الأعمال الفنية أنه لتحقيق أعلى دخل، يجب توظيف عناصر إنتاج جيدة، لتحقيق الأرباح. وكأي منتج وأي سلعة يتم طرحها في الأسواق، كلما ازدادت الجودة، زاد الإقبال على السلعة، والرغبة في شرائها ولو حتى كانت باهظة الثمن. ومن ثم، ازداد عدد المؤمنين بالفن والإبداع، وازدهرت الحركة الفنية في مصر، ووصلت أوجها لدرجة أنه تم نعت مصر بـ “هوليوود الشرق”.

ولكن، على صعيد آخر، اجتذبت صناعة السينما فئة الراغبين في المكسب السريع، والتمتع بعالم الأضواء البراقة. فبالنسبة لهذه الفئة، صناعة السينما هي عجلة الروليت التي قد تقف يوماً على الرقم الرابح فتنقل الفقير المهمش إلى طبقة الأثرياء، وإلى طبقة نجوم المجتمع البارزين. وبسبب الحالة الاقتصادية المتدنية لتلك الفئة من الهواة أو الباحثين عن الشهرة والمكسب، ظهرت أفلامهم بشكل متواضع من حيث الإنتاج، والتصوير، والإخراج، وأيضاً الحبكة الدرامية التي كانت مهلهلة في كثير من الأحيان.

أما بالنسبة للنجوم الذين يقومون بالتمثيل في هذه الأفلام، فغالباً هم أسماء مغمورة يظهرون أمام عدسات التصوير وشاشات السينما لأول مرة. وكثيراً ما نجد أن منتج الفيلم واحد من هؤلاء الممثلين، أو مخرج العمل الفني. وبالرغم من سقوط الكثير من هذه الأفلام الهزيلة المستوى، نجحت أخرى لم يكن يتوقع لها أي نجاح، والعكس بالعكس. فعلى سبيل المثال، توجد أفلام راقية المستوى لم تحقق أي نجاح جماهيري يذكر، بالرغم من توافر جميع عناصر النجاح بها، مثل فيلم “بداية ونهاية” المأخوذ عن رواية للكاتب الكبير نجيب محفوظ اللامع الاسم في هذا الوقت، فلقد كره المشاهد رؤية تيار الواقعية الفجة التي يتناولها هذا الفيلم.

وبعد عام 1952 وما شهده الشعب وصناعة السينما أحداثا متسارعة فيما بعد، تم تأميم صناعة السينما، وتأميم أموال العاملين فيها في ستينيات القرن العشرين. وفي نفس الوقت، أنشئت فيه “المؤسسة العامة للسينما لإنتاج الأفلام الروائية الطويلة”، التي تتبع القطاع العام في مصر، مما أفضى إلى انخفاض عدد الأفلام المنتَجة تقريباً إلى النصف، وبالتالي، هبط أيضاً عدد دور العرض إلى النصف تقريبا.

أما بالنسبة لمرتادي السينمات، فلقد انخفض عددهم أيضاً، لأن محتوى الأفلام كان غالباً محتوى سياسيا من الدرجة الأولى لتعزيز الارتباط بالدولة الجديدة، والقيم الناشئة التي تم إحلالها.

ومع انحدار الحركة السينمائية لأدنى مستوياتها مع وجود “المؤسسة العامة للسينما”، أصبحت صناعة السينما في مصر مصدراً للخسائر وليس المكاسب. فلم تصمد أمام هذا الكم الهائل من الخسائر “المؤسسة العامة للسينما”، وتم تصفيتها بحلول منتصف عام 1971. وبالتالي، تخلص صناع السينما والمبدعون من القيود الصارمة المفروضة عليهم وشرعوا في صناعة فن جاد، يعلي قيمة الفن والارتباط بالواقع تحت مسمى “الفن للفن”. وفي هذه المرحلة، حاول القائمون على الصناعة أن يخلصوا ما أصاب صناعة السينما المصرية ما اعتراها من موجات إسفاف منشؤه هروب النجوم من الأخطار السياسية المحدقة بهم، والتي طالت جميع أرجاء الدولة والصناعات، وبالتأكيد حرية الفكر.

وكان هروب النجوم ليس بهروب افتراضي، لكنهم هربوا بالفعل للعيش أو العمل في لبنان للتمتع بحرية الرأي، وتصوير ما يحلو لهم من أفلام. لكن المنتجون والموزع الخارجي الذين كانوا يبغون الكسب السريع، أو تعويض ما تكبدوه من خسائر، فرضوا نوعية مضمحلة من الأفلام، مفرغة من أي رسالة أخلاقية، أو مفهوم توعوي، أو حتى إمتاع. لقد كانت هذه النوعية من الأفلام التي تم تصويرها بلبنان الموجة الأولى من أفلام المقاولات. فكان يندهش المشاهد من رؤية أسماء لامعة من كبار نجوم صف الأول المصريين مثل فريد شوفي، وإسماعيل ياسين، وأحمد رمزي – على سبيل المثال – يتشاركون البطولة مع نجوم الصف الثاني، أو أسماء مغمورة. فلقد أجبر هؤلاء النجوم على هذا الوضع لمزاولة المهنة للحفاظ على تواجدهم على الساحة الفنية بالرغم من أن الساحة السينمائية خلت من النصوص الجيدة، وللخروج من الأزمات الاقتصادية التي أطاحت بهم بداية من تأميم صناعة السينما، وأيضاً أملاً في أن ينصلح حال السينما في مصر في وقت قريب لاحق.

لكن للأسف، مع انتهاء هذه الحقبة كان جيل عمالقة السينما المصرية قد اختفى، إما بموافاته المنية، أو باعتزاله مهنة التمثيل. أما القلة القليلة الباقية، فانطفأت أسماؤهم، وصاروا نجوم الأدوار الثانية، والثانوية في موجة الأفلام الجديدة.

وانتهت هذه الغمة التي أصابت السينما المصرية مع دخول حقبة الثمانينيات، تلك الحقبة التي تميزت بالانفتاح الاقتصادي، وحرية الرأي والتعبير، وكذلك ظهور جيل جديد من السينمائيين الجادين الذي يؤمنون بقيمة الفن، لكن في الوقت ذاته أيضاً يؤمنون بقيمة المال، وتوفير الموارد الاقتصادية بصناعة أفلام ونجوم جادة. وتماشياً مع المناخ السياسي، والحالة الاقتصادية بدأ صناع السينما تصوير ما يسود المجتمع المصري من تغييرات متسارعة في أفلام مبهرة جادة غرضها تصوير دقائق الواقع، دون خدش حياء “الوضع الاقتصادي للأسرة المصرية”، لكنها في نفس الوقت أفلام شيقة وبعيدة عن الأسلوب الخطابي الذي عمدت له أفلام “الشركة المصرية لصناعة السينما”. فظهر في هذه الحقبة نجوم فرضوا أسماءهم على الساحة الفنية مثل: عادل إمام، ونور الشريف، وأحمد زكي، ومحمود عبدالعزيز، وحسين فهمي، وذلك عند الحديث عن النجوم الرجال.

أما نجمات هذه الحقبة فكن: سهير رمزي، ونادية الجندي، ونبيلة عبيد، والعديد من الممثلات الشابات في هذا الوقت مثل يسرا، وليلى علوي، وإلهام شاهين. وأما عن جيل المخرجين، فنجد خيري بشارة، ورأفت الميهي، ومحمد عبدالعزيز، وعاطف الطيب. وكانت سينما الثمانينيات يطلق عليها “تيار الواقعية الجديدة”، لمحاولتها تناول الواقع الذي يحيا به المجتمع المصري بشكل جديد يغاير تماماً رومانسية أفلام الأبيض والأسود، وكذلك ينأى بعيداً عن إسفاف الكثير من أفلام الستينيات والسبعينيات والتي كانت أيضاً تتحدث عن واقع لا يمت إلى المجتمع المصري وقيمه بأي شيء.

فأمتعنا أحمد زكي وعادل إمام بأفلام متنوعة، واقعيتها تكمن في تقديم شكل الجان – أو بطل العمل الوسيم – الجديد الذي قد يكون خاليا من الوسامة، لكن يكتشفها المشاهد ويعشقها عند رؤية تمثيله. فمثلا كانت ملامح أحمد زكي على عكس مقاييس النجومية لفديمة بكل الأشكال: فلقد كان داكن البشرة لدرجة السواد، ذو شعر أكرد أشعث، ونحيل الجسد. لكن عظمة تصويره للشخصيات التي يمثلها جعلت المشاهد يصدقه في أي دور يلعبه، وجعلت المشاهد أيضاً يراه شديد الوسامة. أي أن تيار “الواقعية الجديدة” قد غير مقاييس النجومية، بالإضافة إلى تغييره لمواصفات صناعة الفيلم. ففي هذه الفترة أيضاً، أقبل المشاهد على أفلام الحركة – التي تدعى بأفلام “الأكشن” – لظهور أفلام بروسلي التي لاقت رواجاً ضخماً في السينما العالمية.

ونجد أيضاً أن الجمهور ملَّ مشاهدة الأفلام الغنائية، وعلى هذا اختفت الأفلام الغنائية مثل أفلام ليلى مراد، وفريد الأطرش وشادية. وعلى صعيد آخر، وفي نفس الوقت، كان يشتهي رواد السينما الإثارة والمشاهد الحميمية؛ وهي تلك المتعة التي تولدت وتراكمت لديه وأصبح يراها مباحة، ولا ضير في وجودها في غمار الأفلام منذ الأفلام المسفة التي ظهرت منذ ستينيات القرن الماضي وامتدت للسبعينيات. وبناء على هذا الذوق الجديد الذي تولد لدى المشاهد، عمد القائمون على صناعة السينما أن تحتوي أفلام تيار “الواقعية الجديدة” على جميع أو بضع تلك العناصر – حسبما يقتضيه الفيلم. ومن ثم، كانت أفلام الثمانينيات ترضي ذوق المشاهد على كل الأصعدة: حيث يجد فيها القيمة والنصيحة، والمعلومة البعيدة عن الأسلوب الخطابي الذي ساد سينما الستينيات، وكذلك تحتوي على جميع أو أغلب عناصر التشويق التي تجذب أي مشاهد.

ونتيجة لهذا، عند ظهور جهاز الفيديو كاسيت – الذي كانت يعد من أعظم اختراعات هذا الوقت – أقبل الجمهور على تأجير ومشاهدة أفلام هولاء النجوم لمرات عديدة دون أن يملَّها، بالرغم من أنه قد سبق وشاهدها على شاشات السينما. فتصدرت إيرادات توزيع شرائط الفيديو التي تحتوي على أفلام الواقعية الجديدة قوائم التوزيع، بالإضافة إلى تصدرها إيرادت شباك التذاكر.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى