الأثر المقدس” رواية خيالات الشرق نهاية القرن الـ 19

 

هذه الرواية “الأثر المقدس” للروائي البرتغالي إيسا دي كيروش قصة صراع لا ينتهي حتى آخر فصل من فصولها، صراع بين الخير والشر، صراع بين العلم والدين، صراع بين الإيمان والإلحاد، بين الصراحة والنفاق. هذا الصراع يتجلى في البطل نفسه “تيوديريكو رابوزو” الذي تغلبه شهواته وتطغى على وازعه الديني.

يروي ـ تيوديريكو ـ سيرته الذاتية، ماتت أمه فور ولادته ثم مات أبوه وهو في السابعة، تربى في بيت خالته فاحشة الثراء والمهووسة بالكنيسة والرب، ودرس القانون في جامعة “كويميرا” وهناك لقبه زملاؤه بـ “رابوزو” أي الثعلب، عاش في صراع بين إرضاء نزواته وتحقيق ذاته، تميز أسلوبه بالسخرية من الآخرين من حوله، لذا كان يناديهم بأسماء غير أسمائهم.

وهناك كذلك صراع العلم الذي يمثله الشاب الألماني المثقف “توبسيوس” وأمامه البطل الذي يدّعي الجهل والتمسك بالدين الذي سيوصله إلى الفوز بثروة خالته. أما الصراع بين الإيمان والإلحاد فقد اعتمل في نفس البطل.

هكذا يعيش بطل الرواية التي صدرت طبعتها الأولى عام 1887 حياة مزدوجة فهو أمام خالته المتدينة تقي ورع لا يفوت صلاة واحدة في الكنيسة، وخلف ظهرها يلهث وراء النساء وشرب الخمر والتمتع بكل ملذات الحياة. عندما سمع من أحد أصدقائه عن الحرية المطلقة التي سيجدها في باريس، طلب من خالته أن تسمح له بالسفر لباريس، لكنها رفضت وطلبت منه أن يسافر إلى القدس ليحج وليحضر لها أثرا مقدسا من هناك. وهكذا يسافر “رابوزو” ليحضر الأثر المقدس وليصف لنا وصفا دقيقا مدينة القدس وأهلها وعاداتهم في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.

مترجم الرواية الصادرة عن دار العربي للنشر د. السيد محمد واصل توقع في تقدمته لها أن تثير جدلًا واسعًا في الأوساط الثقافية “ذلك لما تطرحه من أفكار وتأملات يسوقها الراوي في منامه في متن الرواية، ولا تمثل تلك الرؤى تمهيدًا للأحداث التالية – كما هو متوقع – لكنه يبث من خلالها أفكاره الثائرة على القوالب الدينية الجامدة والمعروفة في زمانه وكأنه يقول إنها ليست أفكاري ولكنها أوحيت إليّ في منامي، وذلك خوفًا من هجوم رجال الدين عليه. أكشف لأهل بلدي بصراحة، في هذه الصفحات التي أكتبها للتسلية في وقت فراغي، الحقيقية دائمًا، رغم كونها أحيانًا متعثرة وهي ترفل في ثياب التاريخ الثقيلة

وقال واصل “تمتد الرواية في إطار دراميّ ساخر بحياة الطفل “تيوديريكو” منذ طفولته وحتى أتم تعليمه الجامعي، كما تستعرض نفاقه لخالته صاحبة الثروة الكبيرة. ترسله خالته إلى القدس ليحج عنها وليحضر لها أثرًا مقدسًا يكون فخرًا للعائلة أمام رجال الكنيسة، فيذهب باحثًا عن المتعة في بلاد الشرق، ويحضر- بمحض الصدفة – أثرًا لم يكن يحلم به”.

وأكد أن الرواية تمثل أهم أعمال إيسا دي كيروش والتي أثَّر من خلالها في وجدان أجيال كثيرة من الشعب البرتغالي، فما قابلت أحدًا من البرتغاليين إلا وقرأها أو سمع عنها رغم نشرها قبل قرن ونصف من الزمان تقريبًا. تمثل اللغة التي يتميز بها إيسا دي كيروش عائقًا كبيرًا عند الترجمة نظرًا لاختياره ألفاظًا جزلة وتعبيرات غير مألوفة.. إضافة إلى قدم الأسلوب والتراكيب التي لم تعد تستخدم في لغة اليوم. ولا أذيع سرًا إذا قلت أن كثيرًا من مثقفي البرتغال حاليًا كانوا يلجأوا إلى القواميس لفهم معنى استعصى عليهم فهمه عندما كنت أستشيرهم في معنى غامض.

 ورغم ذلك كانوا يرجحون معاني بعينها دون القطع بصحتها. لذا فقد لجأت إلى قواميس متخصصة وكتب من التراث المسيحي والتي تتناول فترة السرد نفسها. كما حرصت على إنتاج نص أدبي معادل لغويًا وأسلوبيًا بانتقاء ألفاظ وتعابير بليغة من الشعر حتى يترك النص المترجم الأثر نفسه الذي كان النص الأصلي قد تركه في قارئه.

للمؤلف مقدمته للعمل والتي ترجمها واصل لا ليغني بها قراءة الرواية فقط ولكن لكونها جزءا مهما لإضاءة تلك الفترة التي تدور فيها أحداث الرواية التي تأثرت برحلته بين عامي 1869 ـ 1970 إلى مصر ليشهد حفل افتتاح قناة السويس. قال كيروش “قررتُ – في أوقات فراغي هذا الصيف – أن أكتب صفحات من حياتي، في مزرعة موشتيرو التي أمتلكُها الآن.. كانت ملكًا لنبلاء عائلة ليندوزو من قبلي.. تلك الصفحات التي أظنُّ – ويشاركني صهري كريسبم في هذا الظنِّ – أنها ستكون مليئة بالدروس الواضحة القوية في هذا القرن الذي امتلأ بشكوك العقل وهموم الثروة.

 في عام 1875، عشية عيد القديس أنطونيو، هزَّت خيبة الأمل كياني بمرارة ليس لها مثيل.. في ذلك الوقت، أرسلتني خالتي، السيدة باتروسينيو داس نيفيس، من ساحة سانتانا حيث كنا نعيش، في رحلة حج إلى القدس.. وصلت هناك في أحد أيام شهر أبريل، والحر شديد، عندما كان بيلاطس البنطي هو حاكم يهودية، وكان إيليو لاما مبعوث الإمبراطور لسوريا، وكان ج. كايراس هو رئيس الأساقفة، وشهدت حينها أحداثًا فاضحة بين جنبات تلك الجدران المقدسة.. ثم عدت، بعدما حدث تغير مادي وأخلاقي كبير في شخصيتي”.

وأضاف “هناك عدة قضايا بارزة أرجو أن ألفت إليها الانتباه بوعي وصدق، بينما تحلِّق طيور السنونو فوق سطح منزلي، وتعطِّر زهور القرنفل الأحمر أرجاء حديقتي المثمرة.. ستبقى هذه الرحلة إلى أرض مصر وفلسطين دائمًا كواسطة العقد في حياتي، وأتمنى أن تظل عملًا أدبيًّا جادًا وشيقًا يبقى للأجيال القادمة، لكني حرصت اليوم، وأنا أكتب لأغراض روحانية بحتة، أن تخلو هذه الصفحات المحببة إلى قلبي من ذكر الأطلال والعادات والتقاليد، والتي يمكن أن تُكَوِّنَ دليلًا سياحيًّا رائعًا لبلاد الشرق”.

وأكد كيروش أن ما عدا ذلك، فإن بلد الإنجيل، الذي يُذهِلُ كلَّ من كان له قلب، بدا لي أقل إثارةً للاهتمام ببلد أجدادي “ألينتيجو” بسبب جفافه، ولا يبدو لي أن الأرض، التي شَرُفـَت بوجود المسيح عليها، يمكن أن تتفوق على بلادي في جمالها وروعتها.. صحيح أنني لم أحظَ بجولة في الأماكن المقدسة في بلاد الهند حيث عاش بوذا، وبساتين ميجادايا، أو تلال فيلوفانا، أو وادي راجاجراها العذب، حيث كان المعلم الكبير يعطي أتباعه دروسًا فيها. كما أنني لم أزُرْ غار حراء، ولا رأيتُ الأماكن المقدسة بين مكة والمدينة، التي تردد عليها كثيرًا ذلك النبي العظيم مُحَمَّدٌ، على ظهر ناقته متأملًا في هدوء.. ولكني أعرف جيدًا الأماكن الممتدة بين أشجار التين في بيسان حتى برك المياه المحيطة بمدينة الجليل، وأعرف جيدًا الأماكن التي عاش فيها ذلك الرسول المبعوث من الله، الذي ملأ قلبه الحب، والأحلام، ذلك الذي نسميه الرب يسوع، ولم أجد فيها سوى القسوة، والجفاف، والخراب، والشعور بالوحدة، والأطلال”.

وقال “القدس عبارة عن قرية عثمانية، ذات شوارع متشابكة تحدُّها جدران طينية، ترتفع تحت أشعة الشمس وقرع أجراس الكنائس الحزين. ولا يمكن مقارنة نهر الأردن – وهو مجرى مائي موحل صغير يتسلل بين المباني العتيقة – بنهر ليما الذي يتدفق غربًا من جاليثيا في إسبانيا إلى البرتغال مثلًا، ذي المياه النقية السائغة للشاربين، والذي يجري من تحت قرية موشتيرو، حيث تنتشر جذور أشجار الدبق في حديقتي؛ غير أن مياه أنهار البرتغال لم تنسَب بين قدمي المسيح، ولم تمسُّها أجنحة الملائكة المتوهجة القوية، والتي يرسلها الرب حاملة النـُّذُر من السماء.

وعلى أية حال، وبما أن هناك أرواحًا تقرأ بنهَمٍ عن الأراضي التى تنزلت فيها الكتب المقدسة، وتتوق إلى معرفة كل شيء فيها؛ من حجم الأحجار إلى سعر الجعة، فأنا أوصيهم بقراءة عمل يمتاز بغزارة المعلومة ووضوح الأسلوب لزميلي في رحلة الحج، وهو الألماني توبسيوس، وهو مدرس في جامعة بون، وعضو المعهد الإمبراطوري للحفريات التاريخية.

ويتكون عمله من سبعة مجلدات متصلة، طُبعت في ليبزيج، وتحمل هذا العنوان الرقيق والعميق في الوقت نفسه (مسالك القدس.. من شرقها إلى غربها). في كل صفحة من هذه الرحلة الشاقة، يتحدث العالم توبسيوس عني بإعجاب وشوق. وكان دائمًا يسميني البرتغالي الشريف الشهم، وهو من شرف صداقته ونبل أصله الذي يعود الى (البراقيين)، كما يقول هو وقد انتفخت أوداجه فخرًا، وإضافةً إلى ذلك فإن هذا الجهبذ توبسيوس كان يسخر مني بأن يعلق على شفتيَّ أو على حجم رأسي، بأقوال وأوصاف توصمني بالتدين المفرط إلى حد السذاجة، ثم يفند آرائي بعد ذلك بذكاء وفصاحة، فيقول مثلًا: “وأمام هذه الأطلال التي تعود الى عصر حملة جودفري الصليبية يزعم صديقي البرتغالي أن المسيح كان يمشي هنا ذات يوم مع القديسة فيرونيكا، ثم يسوق دلائل دامغة بعد ذلك يدحضُ بها رأيي، ولكن بما أن الخطب الرنانة التي ينسبها إليَّ ليست أقل شأنًا في حكمتها ولا في بلاغتها من خطب بوسويه اللاهوتية، فلن أقوم بالتنديد به في مقال أبعثه مثلًا إلى جريدة كولونيا الألمانية”.

ولفت كيروش إلى أن هناك نقطة في مجلد “مسالك القدس من شرقها إلى غربها” لا يمكن أن أمر عليها مرور الكرام؛ وهي عندما يتحدث العالم الألماني عن لفافتين من الورق كنت أحملهما وأهتم بهما طوال رحلة الحج التي قمت بها، منذ أن غادرت أزقة الإسكندرية حتى وصلت إلى وديان جبل الكرمل. يقول توبسيوس: “كان النبيل البرتغالي الشهم يحمل فيها بعضًا من رفات أسلافه، التي جمعها، قبل أن يغادر وطنه البرتغال، وهو قادم من قصره القديم ذي الأبراج العالية!…”.

وهو لعمري قول خادع ومردود عليه، فهو يجعل ألمانيا المثقفة تظنُّ أنني كنت أسافر إلى بلاد الإنجيل جالبًا معي عظام أجدادي ملفوفة في قماش بني! ولا يمكن لأي استهانة أخرى أن تثير غضبي ولا أوافق عليها كتلك التهمة. ليس لأنني لا أعترف بالكنيسة، ولكن لأن انتهاك حرمات المقدسات والقبور تزعج فارسًا وإقطاعيًّا مثلي أكثر من انتهاك حرمات الكنيسة التي لا أكترث لمقدساتها أكثر من اكتراثي بأوراق الشجر الجافة التي تتساقط أحيانًا على شمسيتي من فرع شجرة ميت، كما أنني لا أظنُّ أن الكنيسة، بعد أن حصلت على مكاسبها بدفن كومة من العظام، سوف تهتم بأن تُبقي هذه الأجساد إلى الأبد ترقد في سلام تحت ألواح الرخام الأبدية، أو أن تجوب الدنيا في طيات ناعمة من الورق البني؛ لكن ما يقوله توبسيوس يشكك في مصداقيتي تجاه البرجوازية الليبرالية. تلك البرجوازية الليبرالية القوية التي أخذت تنتشر في كل مكان، والتي بها فقط يتحقق كل ما هو جميل في الحياة بدءًا من إيجاد الوظائف في البنوك وانتهاءً بحملات جمع التبرعات للفقراء والمحتاجين.

وختم كيروش مقدمته مؤكدا أن البرجوازية الليبرالية تقدِّر الإنسان وما لديه من طموحات، وتستوعب كل رجل نبيل ذي حسب ونسب. إنها كالخمر المعتق النفيس الذي يحسّن من جودة النبيذ الجديد الخام. لذا فإن صديقي الحميم توبسيوس (الذي رآني من خلف نظَّارته الثاقبة، وأنا أحضر اللفافتين؛ واحدة في أرض مصر والأخرى في أرض كنعان)، تحرِّك ضميره الحي في الطبعة الثانية من كتابه “مسالك القدس.. من شرقها إلى غربها”، وخفَّف من امتهانه لي، وكشف لألمانيا المتحضرة ما كانت تحويه تلك اللفافات من الورق البني. لذلك فأنا أكشف لأهل بلدي بصراحة، في هذه الصفحات التي أكتبها للتسلية في وقت فراغي، الحقيقية دائمًا، رغم كونها أحيانًا متعثرة وهي ترفل في ثياب التاريخ الثقيلة.

 

 

ميدل ايست اونلاين

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى