وهل هناك من منقذ غير الدولة المدنية، يا عزيزي عادل؟ (ميشيل كيلو)
ميشيل كيلو
صديقي عادل محمود، الذي تربطني معه صداقة صادقة منذ العام 1967، يعلم بالتأكيد أنني لم أطالب البارحة، بعد انفجار الأزمة السورية، بـ«دولة مدنية»، بل طالبت بها دوماً منذ أواخر السبعينيات. وهو يعرف انني لم أتخلّ يوماً عن المطالبة بها كمشروع ديموقراطي ميداني ضارب وليس كـ«حلم»، رغم إغراء الكلمة الجميلة التي يستخدمها عادل، وانني رأيت فيها دوماً خياراً نضالياً يستطيع إنقاذنا مما يسمّيه صديق العمر «المرحلة الثالثة» من أزمة وطننا، لو قامت فيه لما بقي النظام الذي خطط منذ زمن طويل «للمذبحة الحالية»، التي ساقنا إليها طيلة قرابة نصف قرن شهد وطننا خلالها مجازر متلاحقة بلغت أوجها في حماه خلال بداية ثمانينيات القرن الماضي، وها هو يتفوق على نفسه في تنظيم سلسلة مترابطة من المذابح، التي يحققها منذ قرابة عامين عبر استخدام قدر متزايد بلا انقطاع من القوة العسكرية والقمعية، ضغط بواسطتها على الشعب لإجباره على حمل السلاح والتخلي عن مظاهراته السلمية، التي أقر رئيس النظام الدكتور بشار الأسد أنها كانت خلواً من السلاح خلال أشهرها الستة الأولى.
وكنت قد حذرت من الوصول الى هذه المرحلة في مقابلة مع السيدة بثينة شعبان، تمت في مكتبها بالقصر الجمهوري، بعد شهر ونيف من انفجار الانتفاضة، عندما شرحت لها ان الحل الامني من فوق سيفشل في وقف المظاهرات، لكنه سينجح في استدعاء حل أمني من تحت، وإن تفاقم الحلين الحتمي سيقضي على أي خيار سياسي أو حل وطني للأزمة، وسيفضي إلى دمار سوريا وهلاكها الأكيد، وناشدتها ان لا يدخل النظام البلاد في تجربة لن تقوى على تحمل نتائجها، واكدت لها ان سياساته ستجعله مسؤولاً عن كل ما سيلحق بالشعب والوطن من خراب وتفكك. واليوم، أليس جلياً، أيها الصديق العزيز، أن سياسات النظام دمرت بلادنا بطرق منهجية خططت لها قبل وقوع الانتفاضة، كما تقول قرائن ووقائع يستحيل انكارها. عمل النظام عبر القضاء على طابع الحراك المجتمعي والسلمي على جعل الأصولية القوة الرئيسة أو الوحـيدة المقابلة له، التي لا بد أن تنضوي كتل شعبية كبـيرة تحت قيـادتها وتـسير في ركابها، ما دام هذا سيكون لمصلحته في نهاية المطاف: عند قدوم لحظة الحسم الدولي، بما أن أميركا تخشى تكرار تجربتها العراقية المريرة مع الأصولية، والكرملين يخاف انتشار هذه الأصولية إلى الاتحاد الروسي، حيث يعيش ثلاثون مليون مسلم في ظروف معقدة، ولم ينسَ بعد تجربته المريرة جداً في الشيشان، التي لم تكن أقلّ خطورة عليه من تجربة أميركا مع القاعدة في العراق.
هل كنت مخطئاً في اعتقادي أنه لا منقذ لنا غير الدولة الديموقراطية، التي يسميها البعض مدنية، وانه لا سبيل إلى النجاة من الفوضى، التي كنت بين اوائل من حذروا منها طيلة عام ونصف في كل ما كتبته أو قلته، لاقتناعي أن إسرائيل تريد تدمير سوريا وترفض قيام نظام ديموقراطي في سوريا، وان بلدان الخليج ستبذل جهوداً مكثفة للتحكم بمفاصل رئيسة في الصراع كي لا يقوم في سوريا نظام كهذا، تعرف أميركا بدورها خطورته على مصالحها في المنطقة والعالم، وتخشى أن يعيد طرح القضايا الكبرى، التي استماتت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي كي تتخلّص منها ومن الزمن الناصري الذي طرحها، وأكرر اليـوم إن سوريا يرجح كثيراً ان تكون ذاهبة من نظام الاسـتبداد الحالي إلى فوضى تجعل منها بلداً غير قابل للحكم لفترة غير قصيرة، ستجعل المذابح التي ستسببها مدخلنا الى حرب أهلية قد تقسم بلادنـا وتقـوّض دولتنا ومجتمعنا. قلت كل ذلك واكثر منه في كل ما كتبته، وكل من قرأ جريدة «السفير» خلال العامين المنصرمين سيخبرك أنني قلته، لذلك أكرر الآن أيضاً إيماني بعدم وجود أي سبيل إلى تفـادي ما يدبر لنا غير اقامة دولة ديموقراطية في سورية، لن تكون تجسيدا لحلم مثقف يعيش خارج الواقع، بل مشروع انقاذي لا بديل له غير مجازر النظام وجرائمه وعنف المتطرفين الاسلاميين وجرائمهم. اليس ما يجري اليوم في بلادنا هو الثمن الذي يجبرنا على دفعه غياب الديموقراطية عن حياتنا، الخاضعة لنمط من الاستبداد يؤكد بطشه الاعمى بالشعب انه لا يرى من خطر على وجوده غير خطرها، لذلك لم يتردد في استخدام كل ما لديه من سلاح ضد المطالبين بها، ودأب طيلة نيف واربعين عاماً على محاربة الداعين إليها وقمعهم وتصفيتهم، بينـما تحـالف مع جميع أنواع الإسلاميين داخل وخارج سوريا، وعمل على افساد الدولة والمجتمع، واعتبر المؤسسة الدينية ركيزة لسـلطته اكـثر اهمية من حزب البـعث؟ ان من يعرف الرئيس الأسد يعلم أن خيبته في هذه المؤسسة كانت أكبر من خيبته في حزبه، وأنه عاب عليها عجزها عن السيطرة على المواطنين وضآلة نفوذها لديهم، بينما كان يتحدث باحتقار عن حزب البعث، الذي انهار كبيت من كرتون ولم يمارس تأثيراً يذكر على الأحداث.
لا اعتقد أن النتائج التي وصلنا اليها تفسر ما حدث في الواقع او تسوّغ تجاهل الأسباب التي ساقتنا إلى حيث نحن اليوم. إذا ما اردنا فهم ما يجري انطـلاقاً من النتائج، قلنا: إنه يوجد اليوم في سوريا قتال بين طرفين. وإذا رأيناها بعين الأسباب، كان علينا الـقول: هـذا القتال خطط له ونظمه وأشرف على دفعنا إليه نظام يجب ان يتحمل المسؤولية عن نتائجه، خاصة انه أطلق النار طيلة ستة أشهر على مواطنين مسالمين كان قد اقر أول الأمر بمشروعية مطالبهم، لكنه ما لبث أن جعل حراكهم السلمي مستحيلا، واجبرهم على الدفاع عن انفسهم بالسلاح. في هذه الحال: هل يتساوى الطرفان؟ وهل يمكن معالجة الأزمة انطلاقا من نتائج لا أسـباب لها؟ صحيح اننا أمام مأزق خطير يمكن أن يأخذ بلادنا إلى الحرب الأهلية والتقسيم، لكن من الصحيح أيضاً رد هذا المأزق إلى سياسات رسمية طبقت خلال أشـهر طويلة حفلت بإذلال الناس وسفك دمائهم وترويعهم، فقد دخل خلال أشهر الانتفاضة السبعة الأولى إلى السجن وخرج منه قرابة نصف مليون سوري معظمهم من الشباب، وارتكبت فظاعات لا توصف ولا تصدق بهدف إجبار المواطنين على حمل السلاح، والتخلي عن مبدأ الحرية الجامع لشعب سوريا الواحد، والانخراط في صراع طائفي رأى النظام فيه مخرجه الداخلي من المأزق، وأنجزه بحسابات داخلية أوهمته أنه منتصر لا محالة بمجرد أن يطيّف الحراك، وخارجية أقنعته أن القوى الكبرى لن تتدخل في اقتتال طائفي وستبقي عليه في نهاية المطاف، وأنه لا ضير في تدمير سوريا إن كان تدميرها يضمن له البقاء؟ بالمقابل، لم يحمل معظم من قاوموا النظام السلاح كي يدمروا البلاد، ولم ينخرطوا في العنف لأنهم تلقوا ضمانات خارجية تجعل منه سبيلهم إلى السلطة، بل فعلوا ذلك دفاعاً عن انفسهم وأسرهم وممتلكاتهم. هل هناك حاجة إلى التذكير هنا بمعنى توحيد السلطة ومنع ظهور أية تباينات في وجهات نظر واية اجتهادات بين اطرافها، بما في ذلك من ينتسبون الى أعلى مراكزها (تذكّر ما جرى لوزير الدفاع العماد علي حبيب)؟. وهل يفوتنا معنى الإفراط في اللجوء إلى القوة العسكرية ضد مناطق الكثافة السكانية عامة والريفية منها خاصة؟ وتحريض المواطنين بعضهم ضد بعض انطلاقاً من انتماءاتهم الدنيا، التمزيقية والمشحونة بالأحكام المسبقة والجهل وتالياً بالعنف، وتحويل نضالهم في سبيل الحرية إلى اقتتال أهلي أوصل النظام نفسه أسلحته إلى أيديهم في حالات كثيرة، لكن وعيهم وتمسك غالبيتهم بالعيش الوطني المشترك حالا دون نجاح ما كان يدبره لهم؟ لن أذكر، أخيراً، بما قلته للسيدة شعبان حول العنف الذي سيخرج حل الأزمة السورية وأوراقها من ايدي جميع السوريين، وسيجعله ضرباً من المحال بقوانا الداخلية او الوطنية، لاسباب كثيرة منها ان ازمة وطنية ومجتمعية وسياسية متشعبة وشاملة كأزمتنا يستحيل ان تحل بالعنف، الذي سيؤجج نيرانها حتى تأكل الأخضر واليابس، كما حدث بالفعل؟
ما الذي اردت قوله في هذه العجالة؟ إنه التالي: ليس ما يجري في سوريا دليلاً على فشل «حلم الدولة المدنية»، التي اراها «كدولـة ديموقراطـية»، بل هـو دليل قاطع على فشل السلطة الاستبدادية، التي خططت لجعل الفوضى بديلها الوحيد، بدلالة شعارين طرحهتما قبل نشوب الثورة قالا: «الاسد أو لا أحد»، و«الأسد أو نحرق البلد». إلى أين غير الفوضـى كان يمـكن أن تقـودنا قيـادة هذه توجـهاته السياسية. بماذا ستـكون الفـوضى، التي تحـدثنـي عنها كاحـتمال مستقبلي سيلي سقوط النظام، مختـلفة عن حالنا الراهنة، التي تسببت بها ممارسـات أمـلاها توجه عملي، تطبيقي، يقول لنا بلا مواربة: إما الأسد أو القضاء على الشعب وحرق البلاد؟ وما علاقة «حلم» الدولة المدنية بهذين الشعارين وبالسلطة التي تبنتهما؟ هل يتحمل هذه «الحلم» المسؤولية عن الطريقة التي طبقا بها؟ ثم، عن أية فوضى مستقبلية يمكننا ان نتحدث، إذا كان النظام قد دمر جميع مدن سوريا الرئيسة، وشرد ملايين المواطنين، وقتل عشرات الآلاف منهم، وأوصل مئات الآلاف إلى السجون والمعتقلات والمنافي، وجرح ولاحق مئات آلاف أخرى، وتسبب في اختفاء وفقدان مئات آلاف إضافية؟ هل ما جرى لهؤلاء كان نتاج هوائية «حلم» الدولة المدنية؟ هذه الفوضى الشاملة، التي تحصد يوميا أرواح مواطنينا، هي ما يجب أن نتوقف عنده، ونعتبره الخطر الرئيس الذي يدمر وطننا، كي لا يستمر بأشكال أخرى في المقبل من الأيام، فلا بد أن نؤيده بكل ما نملك من حب وولاء لشعبنا، إذا أردنا له أن يبقى واحداً وموحداً، وأن ينجو حقا من الفوضى الحالية، التي تؤسس لجميع أنواع الفوضى المقبلة؟
عندما كنا نقول ديموقراطية، كان هناك من يخبرنا أن المجتمع ليس ناضجاً لإحرازها او مؤهلاً لبنائها. وعندما قام المجتمع مطالبا بها، حاربت السلطة بكل ما تملك من قوة حملته وحراكه المدنيين، كي تجبر حلفاءهم في المجتمع الأهلي على هجر المشروع الديموقراطي والسلمي، والالتحاق بمشروع مذهبي / طائفي عنيف ومسلح. وقد حدث شيء مما خطط النظام له، ووقعت (بمساعدة مباشرة او غير مباشرة من بعض قوى المعارضة والجهات الإقليمية والدولية) المأساة الوطنية العامة التي حلت بمختلف قطاعات شعبنا: من أعالي البادية إلى اعالي جبال الساحل، ومن درعا إلى ديريك. فهل من الحكمة، صديقي العزيز، القفز عن أساب الفوضى القائمة ومجرياتها وضحاياها، للحديث عن الفوضى الآتية، التي يفهم من يقرأ مقالتك أنها قادمة على جناح «الحلم» بدولة مدنية، الذي يصير مسؤولا في هذه الحال عن تفجير المجتمع وخراب الدولة، ولا يشفع له أنه طالب بالعدالة والمساواة والحرية لجميع المواطنين بلا استثناء، وكان سلمياً طيلة نصف عام، وطالب أول الأمر بإصلاح تحت قيادة الرئيس الأسد، الذي رد عليه انطلاقاً من واقع كان النظام قد بناه بعناية وحرص خلال قرابة نصف قرن، استهدف تخليف المجتمع وزرعه بالانقسامات المذهبية والطائفية، وتحديث السلطة أمنياً وقمعياً، وجعلها قادرة في أي وقت على تنظيم حرب اهلية بين مكوناته، في حال طالب بالحرية للشعب السوري الواحد!
لا أستبعد ان تدخل سوريا في حقبة جديدة من الفوضى، بعد زوال نظامها الحالي أو – لا قدر الله – هزيمة ثورتها. لكنها لن تخرج منها بأي حال من الأحوال من دون إقامة نظام ديموقراطي قد يكون مليئاً بالعيوب، لكنه يبقى الخيار الوحيد في مواجهة نظام استبدادي يدمر بلادنا منذ قرابة عامين بتصميم من يقضي على عدو!
لن تبقى سوريا من دون النظام الديموقراطي والدولة المدنية. أليس هذا ما نؤكده تجربة عامي الدم والدموع؟ أليس هذا التصميم الشعبي أداتنا إلى إنقاذ وطننا من النظام ومن الفوضى التي لا ترحم أحدا؟
صحيفة السفير اللبنانية