وداعا ” سي الباجي”
الباجي قايد السبسي، أغمض عينيه، لأول مرة، وإلى الأبد، في تونس التي أحبها، أخلص إليها، وتسمى باسم أحد أوليائها الصوفيين (أبو سعيد الباجي)، حيث ولد في تلك الضاحية المطلة على أرض أجداده عام 1926، أي جزيرة سردينيا، في الضفة الشمالية.
كل شيء يعبق عطرا وأنفاسا صوفية في محيط أسرة هذا الرجل الذي يحلو لخصومه السياسيين تلقيبه ب ” الأسد العجوز الذي يقود قطيعا من الذئاب”: أمه اسمها “عربية” نسبة للسيدة “عربية ” (واحدة من النساء المبروكات في تاريخ تونس)، زوجته اسمها ” شاذلية” (نسبة لأبي الحسن الشاذلي)، أما ابنه البكر، “حافظ” فليس بالضرورة أن يشبهه أو يتشبه بالعالم الصوفي حافظ الشيرازي، على كل حال، فالسياسة لا تخطها العرافات ولا القابلات في المستشفيات، خصوصا وأن الرجل لفظ أنفاسه الأخيرة في المستشفى العسكري كرمز وطني بامتياز.
للباجي قايد السبسي، في إطلالته “وهرة” افتقدها التونسيون منذ أفول نجم بورقيبة، ولحديثه طرافة وبشاشة، قوة حافظة، وسرعة بديهة بشهادة كل من حاوره، وتحدث إليه، وهو الذي كاد أن يختم قرنا من الزمن والتقلبات.
يحلو للتونسيين أن يلقبوه ب” بجبوج” على سبيل التحبب والفكاهة، لكنهم، ربما لم ينتبهوا إلى أن التسمية، تعني أيضا في لهجتهم ” صاحب العينين الضيقتين من كثرة السهر” أو كذلك ” التعادل الإيجابي” في قاموس لاعبي الورق.
للباجي من اسمه نصيب، وللتونسيين ـ والعالم ـ في هذا الرجل أكثر من أسوة حسنة.. أليس هو الشخص الذي تقلد فيما مضى شؤون سياسة بورقيبة الداخلية والخارجية؟ وقف على مسافة واحدة مع الجميع، من ” العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”، على قول مواطنه عبد الرحمن بن خلدون في مقدمة كتابه الشهير.
تونس فقدت رجلا من طينة نادرة، عجوزا في سن الشباب، عقلا متقدا في أزمنة الاشتعال، ولكن برأس باردة، وقلب دافئ على حد زعم ـ أو أكثر بكثير ـ مما قاله ” فلاديمير ايليتش إيليانوف لينين”.
الباجي قايد السبسي، سوف يحييك تمثال بورقيبة الذي أعدته إلى مكانه في الشارع الأسطورة، ستبكيك النساء وأرامل الأحزاب .. وحتى خصومك السياسيون.
كنت بديعا وبهيجا و”لعّيبا” أيها الرجل الذي لا يمل الإدهاش.. يا حنوّا أبويّا تونسيا بامتياز، ويا أيها الذي يتقن الانحناء للعاصفة، والابتسامة بمكر في وجه الأعداء.
25يوليو ذكرى إعلان الجمهورية في تونس، ويوم وفاة الرجل الذي عاصر مملكة البايات، شهد على رحيلهم ثم أنشد مع شعبه أشهر بيت شعري في التاريخ المعاصر ” إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر”.