كيف تدعم الدراما التسامح الدينيّ؟
الدراما التليفزيونية فن يعبر عن الحياة وما يدور فيها من أحداث، وتقدم لنا تجارب قد عايشناها من قبل وقد نعايشها في المستقبل، وهي بذلك تُقدم خلفيات ثقافية واجتماعية عن حياتنا، وتساهم في تشكيل معارفنا واتجاهاتنا، مما قد يدفعنا إلى الاعتماد عليها في مواجهة المواقف الحياتية المختلفة. والدراما تلتمس موضوعاتها من الحياة بكل جوانبها، فالدراما ترتبط بالحياة الإنسانية وبالإنسان ومشاكله في هذه الحياة سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو دينية أو اجتماعية، والدراما تحاول أن تجد تفسيراً لهذه الحياة التي مازالت أسرارها غامضة.
في ضوء هذه الرؤية تسعى مدرس الإعلام د. هبة محمد عفت في كتابها “التسامح والدراما.. نشر ثقافة التسامح بين الجمهور” الصادر عن دار العربي للنشر إلى تقديم قضية مهمة ومعاصرة في المجتمع المصري تناولتها وسائل الإعلام المختلفة وخاصة الدراما التليفزيونية وهي قضية التسامح الديني في مصر بين المسلمين والمسيحيين، حيث إن مصر لم تعرف أبدا الحروب الدينية ولا الصراعات الطائفية، وإنما عرفت معنى التسامح والإعتراف بالآخر والتعايش معه وهذا ما تناولته الدراما التليفزيونية المصرية.
درست هبة عفت هذه القضية في ضوء عدة إجراءات منهجية اعتمدت على المنهج المسحي وعينة مسحية للمضمون “عينة عمدية” من المسلسلات والأفلام العربية التليفزيونية التي قُدمت بالتليفزيون المصري، والتي تناولت العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، والتي شملت ثلاثة مسلسلات وستة أفلام، وشملت عينة المسلسلات مسلسل “خاص جدا”، ومسلسل “محمود المصري”، ومسلسل “الدالي” (الجزء الثاني)، واستغرقت عينة المسلسلات مدة زمنية قدرها حوالي 73:30 ساعة، وشملت عينة الأفلام فيلم “الإرهابي”، وفيلم “الرهينة”، وفيلم “حسن ومرقص”، وفيلم “هندي”، وفيلم “همام في أمستردام”، وفيلم “الناصر صلاح الدين”، واستغرقت عينة الأفلام مدة زمنية قدرها حوالي 12:30 ساعة، وذلك لمدة دورتين برامجيتين كاملتين مدتهما ستة شهور متتالية امتدت من 1/1/2012 وحتى31/5/2012، كما تم تطبيق الدراسة المسحية للجمهور على عينة عشوائية طبقية قوامها 400 مفردة من الجمهور العام، تُمثل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والدينية المختلفة بالريف والحضر، وذلك بهدف التعرف على دور الدراما التي يقدمها التليفزيون المصري في نشر ثقافة التسامح الديني بين المصريين.
تناولت هبة عفت التسامح وأهميته ودوره في إحداث التعايش السلمي الفعال بين الأفراد في المجتمع، وباعتباره وسيلة لاحترام الآخر وحقه في التعبير عن رأيه دون قيود، ودعوة الأديان والرسائل السماوية إلى التسامح حتى مع الأفراد المختلفين دينياً، لتحقيق الرخاء وإسعاد البشرية، فإذا كان الاختلاف أمراً حتمياً فرضه الواقع، فإن التسامح هو السبيل لتعايش الأفراد بعيداً عن الصراع والعنف، فالتعددية والاختلاف سنة الله في الكون وليس لأحد أن يحاول إزالة هذا الاختلاف بين البشر، لأنه حتماً لن يستطيع لأن الحكمة الإلهية قد اقتضت هذا الاختلاف؛ لتتعارف البشرية وتتآلف وتتراحم فيما بينها، وذلك من خلال الحوار الهادف والذي يمكن استخدامه لتقريب وجهات النظر المختلفة، ومن أهم شروطه أن يتم بأسلوب راقٍ ومتحضر، وأن يكون بعيداً عن الذاتية والنقد الهدام، لتفعيل القواسم المشتركة بين الأفراد المختلفين.
وأضافت أن من أشهر مظاهر التسامح الديني في مصر “ما حدث منذ الفتح الإسلامي لمصر، ومعاملة عمرو بن العاص للمسيحيين وللبطريرك البابا بنيامين الثاني، حيث أعاده إلى كرسيه وآمنه على نفسه، وأمر بعدم هدم الكنائس والأديرة وبعد أن كانت مصر خاضعة للحكم الروماني الذي اضطهد المصريين، ونال من حريتهم السياسية والدينية، وعانى المصريون في ظله من القتل والسلب والنهب وكافة أشكال التعذيب، حتى جاء الفتح الإسلامي ليخلص المصريين من كافة أشكال الاضطهاد والتعذيب، وكانت ثورة 1919 من أهم صور التسامح الديني في مصر، حيث تجمع المصريون تحت راية واحدة ولواء واحد وهو الدفاع عن مصر، وهنا تجلت أسمى معاني التسامح بين المصريين، وتم إعلاء قيم المواطنة والانتماء الوطني، والتي تُعد من أهم سبل التعايش والاندماج في المجتمع المختلف دينياً، وهذه الروح المتسامحة التي ظهرت وتظهر في مصر لا تعني أنه ليس هناك بعض الخلافات التي قد تظهر بين المسلمين والمسيحيين، وهذه الخلافات هي خلافات قد تقع بين أصحاب نفس الديانة، كما أنها خلافات قد ترجع إلى أسباب سياسية أو اقتصادية “مثل أيام خلافة المأمون والحاكم بأمر الله” وفرض الضرائب الباهظة التي عانى منها المصريون جميعاً”.
ورأت هبة عفت أن ثورة 25 يناير تعد من أهم مظاهر التسامح الديني في مصر، حيث ظهرت روح التسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين في ميدان التحرير، ورفعوا نفس الشعارات ورددوا نفس الهتافات، وإذا غابت هذه الروح المتسامحة، فإن المجتمع سيكون عرضه لأمراض خطيرة تتمثل في الفتنة الطائفية والتعصب والتطرف والإرهاب الفكري الذي سيقودنا إلى الإرهاب الجسدي والقتل، وهي أمراض قادرة على تدمير المجتمع والنيل منه.
ورأت د. هبة أهمية قيام كُتّاب الدراما بشكل عام والدراما التليفزيونية بشكل خاص بتقديم صورة ناجحة وإيجابية عن علاقات الأفراد المختلفين فكرياً وثقافياً واجتماعياً ودينياً، وذلك باعتباره حافزاً لتطبيق هذه الصور الناجحة في الواقع، ودافعاً لتقريب وجهات النظر المختلفة ومقوما أساسياً من مقومات الحفاظ على المجتمع وتماسكه وسلامته.
وكذا ضرورة قيام الباحثين الأكاديميين بإجراء دراسات بشكل دوري على أفراد المجتمع، وذلك بهدف التعرف على الواقع والاحتياجات وجوانب التغيير؛ لمواكبة هذه الجوانب للتغيرات السريعة التي يشهدها المجتمع، والتعبير بصدق عن هذا الواقع وما يشهده من تغيرات، لأن الدراما هي المرآة التي تعكس الواقع، وهي بمثابة المؤرخ الذي يؤرخ لفترات زمنية متتابعة بكل ما شهدته هذه الفترات من جوانب إيجابية وجوانب سلبية.
ولفتت إلى ضرورة إلقاء الضوء على الوضع بعد ثورة 25 يناير، حيث شهدت هذه الثورة عدة تداعيات وتغيرات كبيرة على المستوى المجتمعي أو الإقليمي أو الدولي، وشهدت مصر خلالها صورة واضحة وصادقة للتسامح وللعلاقة الطيبة بين المسلمين والمسيحيين بميدان التحرير، وهذا الوضع يستتبع بالضرورة تقديم عديد من الدراسات الإعلامية وخاصة في مجال الدراما − والدراما التليفزيونية تحديداً − للاهتمام بتصوير وتقديم هذا الحدث درامياً ليعكس هذه الفترة التاريخية في تاريخ المجتمع المصري، كما لا يجب إغفال تأثير ظهور شبكات التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك وتويتر، وما أحدثته من تغيرات فكرية وثقافية واجتماعية كبيرة بالمجتمع وخاصاً خلال ثورة يناير.
وأكدت د.هبة على ضرورة اهتمام الدراما بنشر التثقيف الديني في المجتمع، وتدعيم الحوار بين كافة الأطراف على أساس التسامح والتراحم، والذي يتيح تجاوز الخلاف ويُدعم التسامح بين كافة فئات المجتمع لمزيد من التواصل والاندماج والتقارب بين الأفراد المختلفين. وكذا ضرورة اهتمام الدراما بنشر قيم الخطاب الديني البَّناء، وأن ينطلق هذا الخطاب الديني من قاعدة الاحترام المتبادل وتدعيم القيم الأخلاقية والإيجابية المشتركة بدلاً من التركيز على الاختلافات وسوء فهم وتفسير هذه الاختلافات، كما يجب أن تشير الدراما إلى أهمية تدريب رجال الدين من خلال الدورات التدريبية المعدة مسبقاً إعداداً سليماً وصحيحاً عن الدور الإيجابي لرجال الدين في المجتمع، وكيفية قيامهم بدور فعال في إحداث التعايش الإيجابي والسلمي بين كافة الأفراد في المجتمع.
وإلى جانب ذلك قالت إن هناك عدة اعتبارات وضوابط اجتماعية وثقافية ودينية وفكرية يجب وضعها في الاعتبار تجاه الأعمال الدرامية التليفزيونية المقدمة بالتليفزيون المصري وتجاه قضية التسامح الديني تحديدا ومنها:
– ضرورة اهتمام الدراما بنشر أسس التربية والتنشئة الاجتماعية السليمة بين المشاهدين، والتي تقوم على ضرورة احترام الآخر حتى وإن كنا نختلف معه دينياً أو فكرياً أو ثقافياً، لأن هذا من شأنه أن يُحدث تغييراً كبيراً على المستوي الاجتماعي، وأن تتم عملية التنشئة على أساس التسامح ونبذ التطرف والعنف حتى ينشأ جيل متسامح ومتراحم.
– ضرورة اهتمام الدراما بتفعيل بعض المفاهيم في المجتمع مثل المواطنة والحرية الدينية؛ أي أن يتعامل الإنسان في مجتمعه على أساس انتمائه لوطنه وحقوقه وواجباته كمواطن وليس على أساس ديني أو عرقي، لأن هذا من شأنه أن يخلق مجتمعا متعصبا لا يعرف معنى التسامح، فالاختلاف حقيقة واقعية لا يمكن تغيرها أو الهروب منها، وإنما يمكن التعايش معها.
– ضرورة أن تشير الدراما إلى أهمية عقد الندوات والمؤتمرات واللقاءات التي تُدعم فكرة التسامح والإخاء بين الأفراد أو المجتمعات، وضرورة تأكيدها على تفعيل هذه المؤتمرات والندوات ونقل فاعليتها على أرض الواقع حتى لا تحدث فجوة بين الصورة الواقعية والصورة التي نرغب في وجودها.
– ضرورة أن تشير الدراما إلى أهمية تطوير المناهج الدراسية في كافة المراحل التعليمية لنشر ثقافة التسامح الديني بين كافة أفراد المجتمع ونبذ التعصب والتطرف، فالتعليم من شأنه أن يُحدث تغييراً اجتماعياً مهماً ومؤثراً في المجتمع، فإذا قامت المناهج الدراسية والتعليمية على التعصب وعلى رفض الآخر المختلف ونبذه، فإن الوسائل الإصلاحية الأخرى ستكون بلا فائدة.
ميدل إيست أونلاين