البحث عن دمشق
التغير هو سمة الوجود الحي والعلامة التي ترافق التطور الذي لا مفر منه . غير أن إستعجال التطور أو عدم التخطيط والإستعداد له سلفا يغدو مسخا للوجود وتشويها للكائنات ، وهذا ما حصل فعلا لدمشق ، فقد أصيبت بما يشبه التضخم السرطاني في الأربعين سنة الأخيرة من القرن الماضي ففي خلال هذه المدة القصيرة نسبيا إرتفع عدد سكان دمشق من 400000 – في الخمسينات- إلى ما يقارب الخمسة ملايين وهي نسبة مريعة من التضخم تصل إلى ما يزيد على عشرة أضعاف خلال ثلاثين أو أربعين عاماً فقط .
ومن مضاعفات هذا التضخم الإستهلاك الأرعن الواسع للأرض الزراعية والمياه ، والتعدي غير المسؤول على الأحياء القديمة ، وميوعة التوسع العمراني الخالي من أية جماليات ذات خصوصية نابعة من الطابع التاريخي للمدينة ، وأخطر هذه المضاعفات ما طرأ من تشويه في البشر أنفسهم و هم يمزقون العلاقات الإجتماعية الحميمية و يسخرون من القيم الأخلاقية و يشجعون على المزيد من الفساد .
ومن المعروف أن الزمان ينقضي ويتغير أسرع من المكان ، ذلك لأن المكان يقاوم التغيير أكثر من الزمان لأن المكان يتعامل مع المادة الصلبة والمنظورة في حين أن التغير في الزمان حدث خفيّ نكاد لا نشعر به ومن هنا تتضخم خطورته ذلك لأنه يفاجئنا ، ولهذا كثيراً ما نبدو نحن البشر غير مستعدين ومجهزين لاستقباله ، وبالتالي فالتغيير في المكان يمكن إدراكه بالحواس الخمس ، إذ من الممكن الإستعداد له ، و إنقاذه بما يتلاءم مع بقائه وإنسجامه في آن واحد مع شروط الحياة المتجددة من دون أن يفقد خصوصيته ، خذوا مثلا يُحتذى حقاُ ما صنعته بولندا في عاصمتها ” وارسو ” لحيّها القديم بأسمه العريق بالبولندية Stare Miasto بعد أن هدمه الجيش الألماني النازي بكامله إذ قررت ” وارسو” إعادة بنائه بكل مافيه من أزقة و دروب مُلتوية وجدران فُقدت عبر التاريخ بعضاً من حجارتها فأعادت بناءها كما كانت قبل إحتلال الجيش الألماني بولندا وكأنها بهذا العمل الترميمي الرائع تعيد للشخصية الوطنية التي أُهينت مهابتها الجديرة بالأحترام وعزّها التاريخي الذي هدده النازيون بالزوال ، و المغزى العميق العظيم لهذه الظاهرة الإنسانية أنها هي التي تحمي الذاكرة الوطنية من وباء النسيان ، و التقطع و الإغتراب .
المكان إذن هو الوعاء الذي يجري فيه الزمن ، وحين يبعتد الزمن تهدد الذاكرة بنسيانه ، ومن هنا يبدو أن المكان هو الأداة المثلى لاسترجاع الزمن الذي نريده حاميا لذاكرتنا الوطنية من النسيان و لخصوصيتنا من الميوعة و الضياع .
نقول كل هذا كي ننبه أن دمشق كما يقول معظم المؤرخين أقدم و أعرق مدينة على وجه الأرض ، غير أن هذه المدينة العريقة تفتك بها عوادي الزمن وتشوه أصالتها حين تغيرها إلى مدينة أخرى فقدت نهرها بردى وخضرتها في الغوطة التي تتضاءل حولها و كأن عوادي الزمن هذه هي تغير المكان المسمى دمشق تصنع مكانا آخر لمدينة أخرى لا تشبه دمشق التي نعرفها ذات تقاليد وعادات وخصوصية معينة ، ولا بد كي نعرفها حقا أن نثق بأنها دمشقنا التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا وأنها لم تفقد هويتها بعد فلنبحث عنها إذن جيدا ونعيد إليها ما فقدته كي نقول لأولادنا لا تقلقوا إننا نورثكم دمشق كمدينة مهددة بفقدان أصالتها فإذا لم تجدوها بأكملها فلا بد أن تتابعوا البحث عن دمشق التي عرفناها نحن و وسوف تجدونها مثلنا.!!