كيف نَقرأ “غزوة” أبو الغيط لرُكن الوفد السوري في الأُمم المتحدة وعِناق أعضائه ومُصافحتهم؟
اقتِحام السيّد أحمد أبو الغيط، أمين عام جامعة الدول العربيّة، مكان وقوف أعضاء الوفد السوري في اجتماعات الجمعيّة العامّة للأُمم المتحدة في نيويورك، وعِناقه للسيّد وليد المعلم، رئيس الوفد، ولنائبه فيصل مقداد، ومُصافحته الدكتور بشار الجعفري، خطوةٌ جريئةٌ لافتةٌ للنّظر، وتستحق التّنويه، سواء اتّفق البعض مع هذا الرجل أو اختلف، لأنّها تعكِس حالةً من الاعتراف بالذّنب أوّلًا، وحُدوث تغييرات جذريّة في الموقف “غير الحضاري”، و”غير المَقبول”، تُجاه الدولة السوريّة كمُقدّمةٍ للتّراجع ومُحاولة إعادة ترميم الجُسور.
السيّد أبو الغيط مُجرّد مُوظّف في الجامعة العربيّة، وليس أحد صنّاع القرار فيها، ويجِب التّعاطي معه من هذه الزاوية، فقرار تجميد عضويّة سورية لم يكُن قراره، ولا قرار من سبقوه في هذا المنصب، سواء نبيل العربي، أو عمرو موسى، وإنّما قرار دول خليجيّة اعتقدت في غفلةٍ من الزّمن أنّها باتت تحكُم العالم العربي وتقوده إلى الفوضى، وتغيير الأنظمة بسلاحِ المال، وتنفيذ الإملاءات الأمريكيّة ذات الدوافع الانتقاميّة، وبأثرٍ رجعيٍّ، من كُل من وقف في وجه مشاريع التوسّع الإسرائيلي والهيمنة الغربيّة على المِنطقة، وإعادة تركيبها وِفق هذه المشاريع وسِيادتها، وهذا لا يعني أنّنا ننسى ونغفِر مواقفه عندما كان وزيرًا لخارجيّة مِصر، وهدّد بتكسير عِظام أهل غزّة، ووقف الى جانب تسيبني ليفني وهي تُهدّد وتتوعّد بغزو القِطاع.
***
السيّد أبو الغيط يُصافح الأقوياء الذين انتصر جيشهم العربي السوري على المُؤامرة، واستعاد الغالبيّة الكُبرى من الأراضي السوريّة إلى سيادة الدولة، بمُساعدة الحُلفاء الخلص، مُعترفًا بطريقةٍ مُباشرةٍ وغير مُباشرة، بهذه الحقيقة، وتكفيرًا عن الخطايا، فهو الضّعيف وهُم الأقوياء، وهذا هو التّلخيص الأهم، والأكثر دقّةً لمشهد المُصافحة الذي كان من أبرز مُفاجآت هذه الدورة للجمعيّة العامّة التي اتّسمت بغِيابٍ فاضحٍ للوجود العربيّ، وقضاياه المصيريّة.
لا جِدال في أنّ هذه المُصافحة، وبالطّريقة التي تمّت فيها، ما كان لها أن تحدُث قبل سبعة أو حتى ثلاثة أعوام عندما كانت التدخّلات الأمريكيّة الخليجيّة والتركيّة في الشأن السوري عسكريًّا وسياسيًّا في إطار المُخطّط الأمريكيّ في ذروتها، ولكن الدبلوماسيّة التي يُجيد دهاليزها السيّد المعلم وزملاؤه تُحتِّم التّعاطي مع هذه الخطوة من موقعِ “الكبير”، وعدم الهُبوط إلى مُستوى الصّغار، والكريم من عذَر.
لا نعرِف ماذا همَس السيّد أبو الغيط في أذُنيّ السيّدين المعلم والمقداد قبل أن يُنهي مشهد المُصافحة القصير، ويهرول مُنسحِبًا، ولكنّنا يمكن أن نتكهّن بأنّه قدّم اعتذاره الشّخصي لهما ولبلدهما، وأكّد أنّه مُجرّد موظّف ومُنفّذ، ولا يستطيع الخُروج عن النّص، وأنّ عودة سورية ومندوبها إلى مقر الجامعة في القاهرة بات وشيكًا، انطلاقًا من اعتقاده الخاطئ بأنّهما ينتَظِران هذه “البُشرى”.
القِيادة السوريّة تجاهَلت كُلِّيًّا كُل التّصريحات الرسميّة الصّادرة عن السيّد أبو الغيط، أو بعض وزراء الخارجيّة العرب، حول مَسألة عودة المندوب السوري إلى الجامعة، ترفُّعًا، واحترامًا، لمشاعر الشعب السوري الذي تعرّض لطعناتٍ مسمومةٍ من قِبَل من كان يعتبرهم أشقّاءً، وذوي القُربى، ولكنّ هذا الموضوع أصبح ثانويًّا وفي ذَيل أولويّاتها، لأنّ الجامعة لم تعُد تلك التي نعرفها، وموازين القِوى، وقواعد الاشتباك، تغيّرت في ظِل الصّعود الكبير والفاعِل لمِحور المُقاومة سياسيًّا وعسكريًّا الذي تُشكّل سورية قلبه، ومركز أعصابه.
كُنّا نأمل أن يعِي السيّد تامر السبهان، وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج، هذه الحقائق قبل أن يقول في اجتماع انعقد على هامش اجتماعات الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة “أنّ الحل السياسي في سورية يتطلّب خُروج كُل الميليشيات المسلّحة”، في إشارةٍ واضحةٍ إلى الوجود الإيراني، وربّما قوّات “حزب الله” أيضًا، لأنّ السيّد السبهان ينسى أن تدخّل بلاده في سورية، وتمويل آلاف المسلّحين، وضخ المليارات، كان أحد الأسباب الرئيسيّة لوجود جميع هذه القوّات والحرَكات، سواءً التي تقِف إلى جانب الدولة السوريّة، أو في الخندق الأمريكيّ، فسورية ومُنذ استقلالها، لم تسمح، بل لم تكن في حاجةٍ لوجود مُسلّح واحد أجنبي على أراضيها، ويبدو أن السيّد السبهان ما زال يعيش في الماضي، ولا يُريد أن يعترف أنّ المِنطقة تغيّرت، وبلاده تغيّرت أيضًا، أو هذا هو المُفترض، بعد تورّطها في حرب اليمن، والهجمات الصاروخيّة والمُسيّرة على مُنشآت النفط الحيويّة في بقيق وخريص، وحقل الشيبة، وخط أنابيب شرق غرب قرب الرياض، وتصاعُد وتيرة الأنباء التي تتحدّث عن قُبولها اتّفاقًا جُزئيًّا لوقف إطلاق النّار كردٍّ على مُبادرةٍ حوثيّةٍ في هذا المِضمار.
***
سورية ليست بحاجةٍ إلى العودة إلى الجامعة العربية في صورتها الحاليّة، وبعد الخطايا التي يصعُب غُفرانها وتمثّلت في “تشريع” مُؤامرات التدخّل والتّدمير الأمريكيّة لها، ولليبيا والعِراق واليمن، والعكس هو الصّحيح، بمعنى أنّ الجامعة، ومن جَلسوا أمام مِقودها القيادي في السنوات السبع الماضية، هم الذين بحاجةٍ إلى عودتها على أمل التّطهُّر من هذه الخطايا.
لا يسعنا إلا أن نُقدّر خطوة السيّد أبو الغيط الجريئة هذه، ونتفهّمها في الوقت نفسه، مثلما نُقدّر ونتفهّم هذا التّعالي” من قِبَل الوفد السوري ورئيسه على الآلام وغدر ذوي القُربى، ومَد اليَد والمُصافحة، فنَحنُ عربٌ وينتمي مُعظمنا إلى العقيدة الإسلاميّة التي أحد عناوينها الأبرز التّسامح، اقتداءً بقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم لأهلِ قريش، وبعد فتح مكّة المكرّمة، اذهبوا فأنتُم الطّلقاء.. والكبير من عذَر.
صحيفة رأي اليوم الألكترونية