لماذا تعَمّد المُرشد الأعلى إهانةَ الرئيس الامريكي وإجهاض اتّصال هاتفيّ رتّبه ماكرون بين روحاني وترامب في الأمم المتحدة في اللّحظة الأخيرة؟
الصّفعةُ القويّة التي وجّهها الرئيس الإيرانيّ حسن روحاني إلى نظيره الأمريكيّ دونالد ترامب وتمثّلت في رفضِه تلقّى مكالمةً هاتفيّةً منه، بترتيبٍ من الرئيس الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي أقام خبراؤه خطًّا هاتفيًّا آمنًا لهذا الغرض يُؤكّد أنّ إيران نجَحت في إقامة “شرق أوسط” جديد، ولكن بزعامتها، وليس بزعامة الولايات المتحدة، مثلما خطّطت الدكتورة كونداليزا رايس، وزيرة الخارجيّة الأمريكيّة السّابقة.
المُكالمة الهاتفيّة كان من المُفترض أن تتم على هامِش وجود الرئيسين، الإيرانيّ والامريكيّ، في الجمعيّة العامّة للأُمم المتحدة في نيويورك، وبعد تجاوبِ الإدارة الأمريكيّة مع مُعظم الشّروط الإيرانيّة، وأهمّها رفعٍ فوريٍّ للعُقوبات، لكنّ جناح الصّقور في طِهران الذي يتزعّمه السيّد علي خامنئي، المُرشد الأعلى، تعمّد منع أيّ لقاء، أو اتّصال، بين روحاني وترامب، إمعانًا في إذلال الأخير وإهانته لانسحابه من الاتّفاق النوويّ وفرض العُقوبات المُشدّدة على إيران.
القيادة الإيرانيّة تشعُر أنّها في موقفٍ قويٍّ يُؤهّلها لفرض شُروطها وإرادتها على الآخرين، وعلى رأسِهم الأمريكيّ و”أتباعه” في المِنطقة لعدّة أسباب:
الأوّل: فشل العُقوبات الاقتصاديّة الأمريكيّة في “تركيع” إيران، واستمرار تدفّق صادرات النّفط الإيرانيّة إلى الصين وتركيا والهند ودولٍ أُخرى.
الثاني: باتت القِيادة الإيرانيّة على يقينٍ بأنّ الولايات المتحدة “أجبن” من أن تشُن هُجومًا عسكريًّا ضِد إيران، سواءً للانتقام من إسقاط طائرتها المُسيّرة، أو دفاعًا عن حُلفائها والسعوديين، منهم خاصّةً.
الثالث: أنّ جميع خُصومها يُواجهون أزَمات مُتفاقمة، فالهزائم تتوالى على السعوديّة سواءً من خلال الهجَمات التي استهدفت، وشلّت صناعتها النفطيّة، أو الأُخرى التي مُنيت بها على أيدي الجيش اليمني التّابع لحركة “أنصار الله” الحوثيّة في مِحور نجران أخيرًا، حيث خَسِرت آلاف الأسرى ومِئات القتلى، والعَربات المدرّعة الحديثة، والقادِم أعظم.
الرابع: الطّرف الإسرائيليّ الذي كان من أبرز المُحرّضين لأمريكا على الهُجوم على إيران يعيشُ حالةً من الفوضى السياسيّة حاليًّا، وبنيامين نِتنياهو فشَل للمرّة الثانية في تشكيل الوزارة، وبدأت اليوم التّحقيقات الرسميّة من قِبَل المدّعي العام في التّهم المُوجّهة إليه بالفساد، والاختِفاء من المشهد السياسيّ والإقامة في زنزانةٍ لعدّة سنواتٍ باتا مُؤكّدين.
الخامس: الرئيس ترامب نفسه يُواجه تحقيقاتٍ قد تؤدّي إلى عزله، وحتى إن لم يكُن هذا الاحتمال مُمكنًا، فإنّ فُرصه في الفوز بولايةٍ ثانيةٍ تتراجع بسرعةٍ لأسبابٍ عديدةٍ، أبرزها مُؤشّرات التّراجع الاقتصاديّ، لأنّه أساء استخدام سُلطته، وحاول اللّجوء إلى طُرقِ نُظرائه العرب “المُتخلّفة” و”غير الديمقراطيّة” في تشويه صورة خُصومه، إنّها لعبة الابتزاز النّفطيّ، وكثرة استقبال “الحُلفاء” العرب.
السادس: محور المُقاومة الذي تقوده إيران حقّق إنجازًا استراتيجيًّا على درجةٍ كبيرةٍ من الأهميّة بفتح معبر القائم البوكمال على الحدود السوريّة العِراقيّة قبل يومين، ممّا يعني أنّ الذّراع الإيرانيّ العسكريّ والاقتصاديّ والسياسيّ سيصِل إلى شواطئ البحر المتوسط دون أيّ عقبات، وبِما يكسِر الحِصار المفروض على سورية وإنهاء عُزلتها، وإيصال المزيد من تكنولوجيا الصّواريخ والمسيّرات المُتقدّمة إلى “حزب الله” والحشد الشعبي في العِراق، وسورية ولبنان.
لا نستغرِب هذا الانقلاب في المشهد الشرق أوسطي حيث تتقدّم فيه إيران، ويتراجع خُصومها في المُقابل، ويتذلّل فيه الرئيس ترامب لها، ويتحمّل الإهانات سعيًا للحِوار معها على أمل الخُروج من أزماته تطبيقًا للمثل الإنجليزي الشهير “إن لم تستطع هزيمتهم انضم إليهم”، حتى أنّه لم يتورّع عن مُحاولة فرض نفسه على لقاء ثُنائي بين ماكرون ومحمد جواد ظريف على هامِش قمّة الدول السبع الكُبرى جنوب فرنسا، ولم يردعه رفض ظريف الذي عاقبه ترامب بفرض عُقوبات شخصيّة عليه، ولكنّه لم يتجرّأ على منعه من حُضور دورة الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة، ومن المُؤكّد أنّ هذه التّغييرات ستستمر وتتوسّع في الأشهر المُقبلة.
القيادة السعوديّة التي هدّدت بنقل الحرب إلى الداخل الإيراني عبر الجماعات المسلّحة، وعلى الطريقة الليبيّة والسوريّة، وباتت تُرسل الوسطاء الذين كلّفتهم بنقل رسائل إلى طِهران طلبًا للحِوار والتّهدئة، وهو انقلابٌ وتراجعٌ كبيران في مواقفها يُمكن فهمها بالنّظر إلى تطوّرات الحرب اليمنيّة الأخيرة.
السيد علي الربيعي، المتحدث باسم الحكومة الإيرانيّة تعمّد رش الملح على جُرح الحرج السعودي عندما فاجأنا قبل يومين، بالتّأكيد أنّ الرئيس روحاني تلقّى رسالةً من الرياض حملها أحد الوسطاء (لم يكشف عن اسمه) طلبًا للحِوار والتّهدئة، ومن الغريب أنّ السيّد عادل الجبير، وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجيّة، لم ينفِ هذه المعلومة، واكتفى بالقول “إنها لم تكن دقيقة”، وقال إن دول شقيقة سعت لهذه التهدئة، ولكن تبريراته هذه تتناقض كليًّا مع تصريح مُوثّق لعمران خان، رئيس الوزراء الباكستاني، أكّد فيه أنّ السعوديّة هي التي طلبت منه القِيام بالوساطة سعيًا للتّهدئة مع إيران، ومن غير المُستبعد أنّه الشّخص المعني بنقلِ هذه الرسالة.
قُلناها ونُكررها.. العالم لا يحترم إلا الطّرف القوي الذي يُحافظ على كرامة شعبه وعزّة بلده، ويرفُض الخُضوع للابتزاز، ويعتمد على نفسه وقوّته الذاتيّة في الدفاع عن سيادته، والقيادة الإيرانيّة تتبنّى هذه المبادئ والقيم البديهيّة، المدعومة بخُطط البناء والتنمية والتّصنيع الحربي، والنّفس الطّويل، وإقامة دولة المُؤسّسات والابتعاد عن المزاجيّة الفرديّة.
أمريكا خدعت العرب والخليجيين، منهم بالذّات، وأذلّتهم، وابتزّتهم، ونهبت أموالهم، وباعتهم أسلحةً “خردة” منزوعة القوّة والدقّة والدسم، وثبُت ذلك بوضوح في فشل صواريخ “الباتريوت” والرادارات “الحديثة” التي كلّفت عشرات المِليارات من الدولارات في رصد، أو منع، هجمات حركة “أنصار الله” الحوثيّة وحُلفائها، وحماية المُنشآت النفطيّة، والمطارات السعوديّة، إيران تدعم حُلفاءها بالمال والسّلاح ولهذا تنتصر ويخسَر المُعسكر المُقابل.
نحنُ مع الحوار العربي مع إيران والتّهدئة معها، لأنّ إدارة ترامب تستجدي ذلك، ولن نُفاجأ إذا ما رضخت للشّروط الإيرانيّة كلها، ورفعت العُقوبات عنها بالكامل، واعترفت بقِيادتها لمنطقة الشرق الأوسط، بِما في ذلك تعيين الحكّام على الجانب الغربيّ المُقابل من الخليج.
نعم.. عندما تُعلن الصين أنّها قرّرت استثمار 450 مليار دولار في إيران، وتركيا أنّها ستستمر في استيراد النّفط الإيرانيّ، ولن تعترف بالعُقوبات الأمريكيّة، وتُنسّق روسيا سِياساتها في سورية والمِنطقة مع طِهران، فهذا يعني قِيام شرق أوسطٍ جديد لا مكان ولا دور فيه للعرب، وإن وُجِد هذا لمكان وهذا الدّور، فإنّه دور التّابع الذّليل.. والأيّام بيننا.
صحيفة رأي اليوم الالكترونية