الانسحاب الأميركي من سوريا.. ترامب يركل معارضيه
“انقلاب في القصر ضد (الرئيس) ترامب قادته وكالة الاستخبارات المركزية”. هي ميزة التطورات الأخيرة بين البيت الأبيض ومعارضيه في “السي آي إيه وآليات الحزب الديموقراطي”، والأجهزة الأمنية للإطاحة به.
تعود تلك الخلاصة إلى المسؤول الأسبق في وكالة الاستخبارات الأميركية والأستاذ في جامعة جورج تاون، روبرت باير، في إطار سبر أغوار التجاذبات والاصطفافات الأخيرة داخل أركان السلطة السياسية بصورة علنية غير معهودة أو غير مسبوقة. (مقابلة مع شبكة سي أن أن، 7 أكتوبر/تشرين الأول).
يعدّ (باير) من مناوئي الرئيس ترامب الأشداء ولا يتوانى عن إعلان كراهيته له، مما يضيف مصداقية مضاعفة لتصريحاته سالفة الذكر.
من بين المسلمات السياسية أن الرئيس ترامب ما برح يردد وفاءه لوعوده الانتخابية بسحب القوات الأميركية من أفغانستان وسوريا.
واجه معارضة شديدة عند كل نقطة مفصلية من قبل القيادة العسكرية (البنتاغون) ووكالة الاستخبارات المركزية، بالإضافة للقوى الأخرى المصطفة في ما أسماه بـ “الدولة العميقة”، من أجهزة أمنية وركائز الحزب الديموقراطي.
انتهز الرئيس ترامب ما اعتبره فرصته السانحة لتسديد ركلة إلى الوكالة المركزية، عقب إعلانها عن مسؤولية أحد ضباطها المفروزين للبيت الأبيض، والذي قام بإفشاء تفاصيل مكالمة الرئيس الهاتفية مع الرئيس الأوكراني، وما رافقها من سعار تجلّى عبر سلسلة استجوابات تقدم بها مجلس النواب لكبار المسؤولين والمقربين من الرئيس وممن غادروا الإدارة، في سياق التحقيق للبدء بإجراءات العزل.
يشار إلى أن القوات الأميركية التي رابطت في منطقة شمال شرق سوريا كان جلها من القوات الخاصة، بالتعاون مع وكالة الاستخبارات المركزية، في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، والتي تراوح تعدادها بين 300-500 عنصر، وفق التصريحات الرسمية حينذاك.
بضع ساعات شكلت الفاصل بين إعلان البيت الأبيض عن “سحب قوات أميركية” في الشمال السوري وبدء أنقرة لعملياتها العسكرية، وقد مهد لها ترامب بالإعلان عن عدم مشاركة بلاده “بالعمليات العسكرية العبثية” التي ستشهدها منطقة الشمال الشرقي لسوريا.
قوافل من الشاحنات العسكرية الأميركية وناقلات الجند المدرعة شوهدت متجهة إلى مدينة (أكاكالي) عند الحدود التركية عشية بدء الغزو التركي. وزارة الدفاع الأميركية، البنتاغون، أشارت إلى الغرض من سحب القوات الأميركية وقدمته بأنه “لضمان سلامتهم .. لكنهم لن يخرجوا من سوريا”.
ترافقت تلك التطورات مع تحركات الجيش العربي السوري باتجاه مدينة منبج الاستراتيجية حسبما أعلنت “قوات سوريا الديموقراطية – قسد”.
علل الرئيس ترامب التطورات “المقبلة” في الشمال السوري، عقب مكالمته الهاتفية مع نظيره التركي، والذي صرح بدوره بأن بلاده على وشك شن هجوم عسكري هناك. وأوضح لطواقم الصحافيين في البيت الأبيض،(7 أكتوبر/تشرين الأول) الجاري، أنه عزم على “إعادة القوات الأميركية لموطنها .. بعضها قضى عدة عقود بعيداً عن البلاد؛ فقد كسبت الانتخابات الرئاسية استناداً لهذا الوعد”.
وأردف: “أمنيتنا هي إعادة قواتنا إلى البلاد وبعيداً عن تلك الحروب اللامتناهية”.
حقيقة الأمر أن تعداد تلك القوات مجهرية، بضع مئات، مقارنة بالقوات الأميركية المعلن عنها في المنطقة، وما جرى هو إعادة تموضعها من مناطق محددة في الشمال السوري إلى قواعدها العسكرية المنتشرة في العراق وسوريا أيضاً، لا سيما قاعدة عين الأسد في العراق، بالقرب من الحدود المشتركة مع سوريا.
في هذا السياق، أعلن البنتاغون عن زيادة جديدة في حجم القوات الأميركية في الشرق الأوسط “منذ شهر أيار/مايو الماضي بلغ تعدادها أزيد من 14،000 عسكري”. وأوضح البنتاغون في بيانه أن مجموع القوات في المنطقة “يفوق 60،000 جندي بعضهم يرابط في قواعد متعددة والآخر على متن حاملات الطائرات المنتشرة”. (11 أكتوبر/تشرين الأول الجاري).
وأضاف ترامب لطمأنة معارضيه في الداخل الأميركي، من الحزبين وقوى أخرى: “إذا فعلت تركيا أي شيء أعتبره، بحكمتي العظيمة والتي لا تضاهى، تجاوزاً للحدود، سأدمر وأشلّ اقتصادها بالكامل (وقد فعلت ذلك سابقا)، يجب عليها وعلى أوروبا والآخرين، التكفل برقابة أسرى مقاتلي داعش وعائلاتهم”.
لم يكشف البيت الأبيض أو أي مسؤول آخر حقيقة “الخطوط الحمر” التي رسمها الرئيس ترامب لنظيره التركي، لكنه ما لبث أن أوضحه لاحقاً في تغريداته بتاريخ 9 أكتوبر/تشرين الأول والتي جاء فيها: “لقد التزمت تركيا بحماية المدنيين، وحماية الأقليات الدينية، بما في ذلك المسيحيين، وضمان عدم حدوث أزمة إنسانية – وسنجعلهم يلتزمون بهذا التعهد”.
واستطرد قائلاً بأن تركيا أضحت مسؤولة الآن عن ضمان الاحتفاظ بجميع مقاتلي داعش والمحتجزين في السجون، وأنه أبلغ الرئيس التركي بأن أميركا لا تؤيد العدوان على الأراضي السورية بل هي “فكرة سيئة”.
وعقّب مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية، (10 أكتوبر/تشرين الأول)، أن بلاده أبلغت أنقرة بأنها “لن تغطي العملية سياسياً أو تدعمها عسكرياً”.
المعلومات الميدانية (الأميركية) أشارت إلى أن القوات التركية مهدت غزوها للأراضي السورية بقصف مدفعي شرس على بوابات سجون داعش، التي كانت تحت سيطرة القوات الكردية، مما يعني أن نحو 12،000 مقاتل داعشي قد يتم إطلاق سراحهم، من بينهم نحو 4000 مسلح أجنبي، يضافون إلى نحو 18،000 مسلح آخرين “مختبئين في المنطقة”.
سياسياً، توحدت لهجة معارضة الرئيس ترامب من قبل الحزبين. بعضهم أشار إلى إقدامه على الخطوة منفرداً ومن دون تنسيق مسبق مع قادة الكونغرس، ومجموعة أخرى نددت بها كونها “طعنة في ظهر” الكرد حلفاء واشنطن ما يهدد المصالح الأميركية، لا سيما وأن واشنطن هي التي طلبت من الكرد، أوائل عام 2015، مساعدتها لقتال داعش.
أنصار الرئيس في الكونغرس انضموا بغالبيتهم إلى حملة الانتقادات الغاضبة، أبرزهم السيناتور ليندسي غراهام الذي اعتبر أن قرار ترامب “ينطوي على كارثة” ودعاه إلى “العودة عن قراره” بسحب القوات الأميركية من سوريا. كما حث الرئيس ترامب على المبادرة إلى إحاطة مجلس الشيوخ بتلك التطورات في جلسة مغلقة.
وأعرب نحو 29 عضواً من الحزب الجمهوري في مجلس النواب عن دعمهم لمشروع قرار يفرض عقوبات اقتصادية على تركيا رداً على عمليتها العسكرية ضد قسد.
أما استطلاعات الرأي المتعددة فأشارت بوضوح إلى انقسام عامودي بين مؤيد ومعارض لقرار ترامب. أحدثها أشار إلى نحو 54% غير راضين عن سياسات الرئيس مقابل 42% من المؤيدين.
نتائج معدل الاستطلاعات المتعددة، حتى نهاية يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول، بلغت نسباً مشابهة: 54% معارضين مقابل 43% مؤيدين. (موقع ريل كلير بوليتيكس Real Clear Politics).
عند مساءلة المستطلعة آراءهم حول تصريح الرئيس ترامب بأنه “آن الأوان للخروج من تلك الحروب السخيفة واللامتناهية”، جاءت النتائج في صالح الرئيس: 58% مؤيد مقابل 20% معارض؛ شملت دعم 55% من الديموقراطيين لتصريح الرئيس، ودعم 69% من الجمهوريين.
الغزو التركي للأراضي السورية يطمح إلى التوغل بعمق 40-50 كلم على طول 500 كلم، بخلاف ما اتفق عليه مع الجانب الأميركي سابقاً بوهو ألا يتجاوز العمق 6 كلم (3 أميال) و30 ميلاً طولياً.
المنطقة المترامية الأطراف تتحكم بها طريق M4 الدولي بمحاذاة الحدود التركية والتي تخترق الأراضي السورية بدءاً من مدينة حلب غرباً عبر الجزيرة السورية وباتجاه معبر ربيعة عند الحدود العراقية.
بكلمة أخرى هي الطريق الحيوية لسلة الغذاء والطاقة السورية، ولعلها من أبرز الأهداف المضمرة للغزو التركي، بعد أن قرر الجانب الأميركي تسليم مهمة استكمال تقسيم سوريا بأدوات تركية مباشرة.
تواطؤ وأهداف غير معلنة
الاستراتيجية الأميركية لم تغادر مربع طموحها للإطاحة بالنظام السوري وتقسيم البلاد وفق أسس عرقية وطائفية. فالغزو التركي، كما وصفه الرئيس ترامب نفسه لم يكن سيرى النور من دون تنسيق، بشكل أو بآخر، مع واشنطن.
ولعل عدم إدانة واشنطن في مجلس الأمن بقرار يدين الغزو التركي أبرز مثال على تورط الرئيس الأميركي وكبار أعوانه في التكامل مع أنقرة ومنحها الضوء الأخضر، وربما تكليفها بتنفيذ الأجندة الأميركية لتفتيت الدولة السورية وسط صراخ عالي الوتيرة في واشنطن بأنه يتعين عليها الاستثمار في شرقي آسيا لمواجهة الصين وروسيا.
أما تصريحات ترامب وتهديده تركيا بإنزال عقوبات اقتصادية ضدها “واستعداده لشل” اقتصادها بشكل تام فلا تعدو أكثر من خطوة استعراضية لابتزاز تركيا وامتصاص المعارضة الواسعة له، أميركياً ودولياً، لا سيما دول الاتحاد الأوروبي وما تكنه من عداء متأصل ضد “تركيا الإسلامية” ودعمها لنزعات الكرد الانفصالية.
تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى تواجد قوات خاصة أميركية لا تزال تعمل إلى جانب القوات الكردية، إضافة إلى استمرار عمليات تسليحها كخطوة ضامنة لعدم توغل الجانب التركي أبعد مما هو متفق عليه أميركياً، عدا عن الدعم السري المزمن للجماعات الكردية الانفصالية من قبل دولة الكيان الصهيوني.
أما في الشق العسكري التركي، فإن معظم القوات التركية تعاني من معضلات ميدانية وعملياتية، أوضحها تقرير لمعهد واشنطن، في آذار/مارس 2019، في سياق تقييمه لفعالية القوات التركية في سوريا.
وجاء في التقرير أن التحديات أمام القوات العسكرية التركية تشمل: غياب الانضباط، تقدم عمر المعدات مثل المدرعات، الفشل في اعتراض القوات الكردية غربي وادي الفرات، وعدم القدرة على تحقيق الأهداف المرسومة للعمليات الحربية.
ضرب الرئيس ترامب موعداً مسبقاً لزيارة الرئيس التركي إردوغان إلى واشنطن، في 13 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، وكأنه يمنحه تلك الفرصة الزمنية لإنجاز المهمة المتفق عليها. بيد أن التطورات الميدانية والإقليمية والدولية قد تعرقل الزيارة وربما تسهم في إلغائها بالكامل، ما يستحدث مسألة إنزال العقوبات على بساط البحث.
كما تستمر إدارة ترامب في إرسال الإشارات المتناقضة حول عزمها سحب القوات الأميركية من المنطقة بينما ترسل المزيد من الجنود والمعدات العسكرية إلى السعودية بهدف تعزيز قدرات الأخيرة ضد إيران، وفي موقف يتحدى رأي أغلبية أعضاء الكونغرس المطالبة بتجميد الدعم للسعودية بسبب جرائمها في عدوانها على اليمن.
الميادين نت