خمسون طريقة للإحتيال على قول الحقيقة
للكاتب المسرحي الألماني ” برتولد بريخت ” مقالة ظريفة بعنوان ” خمس طرائق للإحتيال على قول الحقيقة ” كتبها بعد هروبه من بلاده أيام الحكم النازي و نشرها في الخارج يتحدث فيها عن قسوة أجهزة الرقابة النازية و تشددها في فحص و تدقيق كل الإبداعات الفنية بحثا عما يُشتبه أنه مخالف للقوانين بهدف منعها و معاقبة أصحابها .
لم تدم هذه الحالة الطارئة على ألمانيا أكثر من عقد و نصف من الزمن ثم عادت المياه إلى مجاريها واستأنفت الحرية مسيرتها والديمقراطية نظامها هناك . لم يعد ثمة حاجة للإحتيال على قول الحقيقة مخافة الترهيب . و هذا ما دفع أحد الظرفاء من الكتاب العرب على التعليق على مقالة ” بريخيت ” المذكورة بقوله : (( إن بريخت والألمان عموما محظوظون إذ لم يعانوا من وطأة الرقابة المتشددة سوى أمد قصير نسبيا في حين أن الكتاب والمبدعين العرب عموما يرزحون تحت الرقابة الإستبدادية منذ عشرات القرون و لهذا فهم بحاجة إلى أكثر من خمس طرائق للإحتيال على قول الحقيقة !..)).
خمسون طريقة ليست سوى رقم إفتراضي إذن لعدد أساليب المراوغة التي برع الكتاب العرب في توليدها تهرّبا من الرقابة ، و قد يكون هذا الرقم أقل أو أكثر و لكن مما لا شك فيه أن العرب لهم كل الحق في إدعاء الأسبقية بين أمم الأرض في الإحتفاظ بسيف الرقابة على الإبداع الفني و الفكري عموما وهذا ما دفع المبدعين إلى إبتكارعدد وفير من أساليب المواربة والتخفي وصولا إلى قول الحقيقة ومنها مثلا الترميز وإستخدام الخرافة والأسطورة والحكاية الشعبية والإسقاط التاريخي والفانتازيا والغرائبية وغيرها كثير …. و هذا ما أوقع أجهزة الرقابة الرسمية في حالة متوترة من البلبلة والمبالغة في الشك والتوهم خوفا من أن تتهم بالتقصير أو التهرب وإنزال العقوبات المشددة عليها .
هذه الأوضاع ليست جديدة علينا وإنما هي وليدة مراحل زمنية مديدة بدأت مع بزوغ الدولة الإسلامية التي اغتصبت السلطة بعد إنتهاء عهد الخلفاء الراشدين كالدولة الأموية فالعباسية فدول العصور المتتابعة إلى أيامنا هذه و التي ظهرت فيها الصوفية مثلا و كتابات إخوان الصفا و محي الدين بن عربي و حكايات كليلة ودمنة لأبن المقفع وغيرها من الإبداعات التي حاولت قول الحقيقة عبر أساليب الترميز والمجاز والمراوغة والأسطرة والتخيل وغيرها وقد نزلت ببعض أصحابها من الكتاب عقوبات وحشية كالسلخ والحرق وتقطيع الجسد حيا بسبب شكوك السلطان في نوايا مبدعي هذه الكتابات …
ليست أحوالنا الراهنة إذن سوى امتداد متواصل لأحوال عريقة سحيقة في القدم ظلت متواصلة دونما إنقطاع يُذكر غابت فيها الحريات العامة تماما أو بعض الشيء و امتنع على المفكرين المبدعين قول الحق طوال عهود مديدة إنعكست فيها نتائج هذا الأسلوب الفظيع في قسوته و أساليب عقوباته الوحشية على مجمل مرافق التقدم الحضاري ، و ما أحوال التخلف السائدة حاليا سوى أنها المحصلة الطبيعية لهذا المناخ الخانق و الطويل الأمد من الطغيان و خنق الحريات العامة …
هذا هو تاريخنا الحقيقي مع الأسف والأسى الشديدين أن تقدمنا الحضاري لم يتحرك و فعلا أكثر من ثلاثة قرون و نيف من الزمن الهجري ثم راح يتخبط و ينهار منذ أوائل القرن الرابع للهجرة حتى اللحظة التي أكتب فيها هذا الكلام في دمشق العاصمة العريقة التي تعتبر أقدم مدينة في التاريخ والمهددة بأن تغدو مع التحولات السياسية والإجتماعية الخطيرة الأخيرة أن تصبح دمشق أسوأ مدينة في التاريخ و كل رجائنا و أمانينا ألا يحصل ذلك …