كن أنت أنت … لا غيرك
أذكر أنني قرأت ذات يوم أن أحدهم سأل الفيلسوف الروحاني الهندي ” كريشنا مورتي ” يستشيره في أمر صعب :
ما عساني أصنع يا سيدي حتى أخرج من هذه الصعوبة ؟ فأجابة كريشنا مورتي: أن تكون أنت أنت في الوصول إلى الحل المناسب … لا سواك ..
و حين إستوضحه أجاب الفيلسوف بما معناه : ” لا أحد يحق له أن ينوب عن الأخرين في التفكير و إتخاذ القرار . و هذا يعني أن الإنسان يجب أن يكون مستقلا حرا من أية وصاية سوى ما يمليه وجدانه الشخصي … المهم ليس رأيي بل رأيك أنت فإذا لم يتعلم أحدنا أن يكون له رأيه الخاص فلا جدوى من التعود على معونة الآخرين …
كنت مدرساً حين قرأت كل هذا ، ومنذ ذلك الحين تعلمت أن أمارس مهنتي كمدرس آخذا بهذه النصائح فصرت إذا أصّر أحد طلابي أن يعارضني في أحد الدروس حول أحد النصوص أن أجيب بقولي للطالب :
اشرح لنا إذن وجهة نظرك فربما كنت على حق وأنا على باطل .. و هذا ما حصل فعلا مع ذلك الطالب … فارتبك الطالب وقال : ” عفوا أستاذي …أنت دائما على حق و الأغلب أن أكون أنا المخطئ” فقلت له : هذا غير صحيح فكلنا معرضون للخطأ و لا مجال لمعرفة الصواب إلا بالمساجلة و تبادل الرأي دونما إكراه أو تعصب فاشرح وجهة نظرك أولا و بعدها نقرر أي منا المخطئ..
أذكر أن مناقشة رائعة دارت رحاها يومئذ في الصف شارك فيها معظم الطلاب حول الموضوع ذاته وحين قرع الجرس صاح أحدهم : و لكننا لم نصل يا أستاذ إلى نتيجة محددة..
فقلت له : بالعكس تماما .. الفائدة الحقيقة هي أنكم شاركتم في النقاش وأبدى كل منكم رأيه ..أما الرأي الصائب فسوف يظهر لك فيما بعد حين تخلو إلى نفسك و تراجع في ذاكرتك ما سمعته دونما تدخل من أحد .. هذا هو ما يبقى عادة في النفس .. النقاش الحرّ الجماعي هو الذي يوصلك إلى الحقيقة …
و تشاء المصادفة أن ألتقي بذلك الطالب بعد ما يقارب العشرين عاما ، و كنت نسيت أسم الطالب فذكرني بنفسه و هو يبتسم بمودة صريحة ثم قال : تصور يا أستاذي أن معظم ما تعلمته عن الأدب العربي قد جرفه الزمن و خاصة بعد الإختصاص العلمي الذي تابعته بعد البكالوريا إلا تلك النقاشات الحرة التي كنت تشعلها لنا في الصف أحيانا حول بعض المسائل اللغوية أو الأدبية ما تزال محفورة في ذاكرتي و بفضلها لم أقطع صلتي بالنصوص الأدبية شعرا أو قصصا أو مقالات و صرت أتابعها في أوقات فراغي و أجد متعة حقيقية و أنا المهندس الأن أن أشارك في أي نقاش حول الإبداع الفني عموما نثرا كان أو شعرا أومسرحية أو فيلما …
أشعر دوما أنني أعانق الثقافة العامة للمعارك البشرية بفضل ما أيقظته فينا من نشاط حرّ لإكتشاف الجمال و الحقائق الفنية عموما..
هذه هي المدرسة التي حاولت أن أثيرها وأوقظ الفضول الشخصي الحقيقي لكل منا في اكتشاف الحقيقية وراء النصوص الأدبية من خلال إيقاظ الحماس الشخصي الصادق الذي يدفع طالب المعرفة في أن يوقظ نفسه أولا كإنسان حرّ يملك عقلا يجب تحريضه على التفكير الشخصي لا على الحفظ الغيبي في جارور الذاكرة فقط أن نوقظ هذا العقل على النشاط الشخصي الحر.. و هذا ما يعنيه ” كريشنا مورتي ” أن يكون الواحد منا له أسلوبه الخاص في التفكير و الوصول إلى الحقيقة و ليس فقط الحفظ الغيبي لما نسع أو نقرأ … أن يكون الواحد منا هو نفسه في إكتشاف الحقائق لا في تقليد الآخرين …