لماذا قد تُشكّل حادثة إطلاق النّار في قاعدة فلوريدا إحراجاً إضافيّاً للسعوديّة نظراً لحساسيّة زمانها ومكانها ومُنفّذها “السعودي”؟

 

تبدو العربيّة السعوديّة، وهي تعتبر نفسها بغضّ النّظر عن الإدارات، الحليف الأوثق للولايات المتحدة الأمريكيّة، على قلب رجل واحد، في المُسارعة لإدانة حادثة إطلاق النّار في قاعدة عسكريّة في ولاية فلوريدا، والذي تبيّن أنّ مُطلق النّار سعودي الجنسيّة، لا بل يحمل رتبة ملازم ثاني في الجيش السعودي، وجاء لغايات تدريب الطيران، ضمن برنامج مُنخرط فيه، ويُدعى محمد الشمراني قُتِل بعد قتله ثلاثة أشخاص.

سفيرة الرياض في واشنطن من جهتها، الأميرة ريما بنت بندر، والتي كان لافتاً تركيزها على أنها ابنة طيّار عسكري سابق “تدرّب في أمريكا” ضمن سلسلة تغريدات نشرتها على حسابها حول الحادثة، كانت هي الأخرى بعد عاهل بلادها، ضمن طابور المُعزّين، والأهم المُتضامنين، أو حتى المُتنصّلين من مُحاولات تحميل المملكة، المسؤوليّة المُباشرة عن الحادثة، بواقع أنّ المُنفّذ مُلتحق رسميّاً بجيشها، والذي لا تقوم أدبيّاته كما هو مُتعارف عليه، على اعتبار عناصر الجيش الأمريكي، وقواعده أهدافاً يجب استهدافها، الأميرة ريما وصفت الحادث بالمُؤلم، وأكّدت على وحدة الشعب السعودي في إدانة هذه الجريمة.

العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، استبق سفيرته، وهاتف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وفي توصيف مُماثل تقريباً لما استخدمته سفيرته ركّز على مشاعر السعوديين الذين لا يُعبّر عنهم مُنفّذ الحادثة، وهُم أيضاً يُحبّون الشعب الأمريكي، وهو ما نقله عنه ترامب عبر حسابه في “تويتر”، وقال أيضاً إن الملك سلمان مُستاء من الهُجوم، ووصفه بالعمل الهمجي.

الإجراءات “الكلاميّة”، والتي منها الإدانات المُتوالية التي صدرت عن المسؤولين السعوديين للحادثة، إلى جانب فتح باب التعاون السعودي مع الأجهزة الأمنيّة الأمريكيّة للتّحقيق، تبدو مُحاولات لعدم إعادة “لصق” تُهم الإرهاب والتطرّف بالشعب السعودي وحُكومته، والذي خرج منه في الماضي عناصر مُتطرّفة وإرهابيّة بحسب تصنيف السلطات الأمريكيّة، فالعربيّة السعوديّة بالأساس، مُتّهمة بالوقوف خلف أحداث 11سبتمبر، وتمويلها، وقانون “جاستا” يُلاحق أساساً سلطاتها، لتعويض أسر الضحايا المُتضرّرين من استهداف مبنى التجارة العالمي “بالطائرات”.

حتى وإن كانت العربيّة السعوديّة بريئة كما تقول من ادّعاءات تمويل مسؤوليها لأحداث 11 سبتمبر، وتهديدها غير المُنفّذ بسحب ودعائها الماليّة من الولايات المتحدة في حال مُعاقبتها بقانون “جاستا”، تبدو المملكة النفطيّة مُدانةً بالحادثة أمريكيّاً، فحاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس، كان صارماً في تعليقه على حادثة إطلاق النّار في ولايته، وأكّد أنّ السعوديّة تُدين لهم بدين، وللضّحايا والمُصابين دين، وهذا الدين ترتّب وفق حاكم الولاية، لأنّ المُنفّذ أحد أفرادهم أي السعوديين، هذا التّعليق يبدو أنه لا يأخذ مُحاولات تبرّؤ الرياض من التّهمة، وحصرها بالعمل الفردي المُدان، وهو ما يطرح تساؤلات حول إمكانيّة فرض عمليّة ابتزاز ماليّة جديدة على سُلطاتها، وغيرها من التنازلات، فماذا يعني أن يطلب حاكم فلوريدا منهم جعل الأمور أفضل لهؤلاء الضحايا، فيما اكتفى الرئيس ترامب صديق المملكة، بنقل تعازي وإدانة الملك سلمان للحادثة “الوحشيّة” ولم يُعفِها من المسؤوليّة المُباشرة حتى كتابة هذه السّطور.

توقيت الحادثة تحديداً، كان لافتاً للعديد من المُراقبين، ويأتي في زمنٍ يُفترض فيه أنه زمن وعصر إصلاحي، حيث عصر الأمر بالمعروف، والنهي عن المُنكر، أو زمن الاختطاف كما يُفضّل أن يصفه مسؤولون سعوديّون، تبدّل بعصر الترفيه والانفتاح.

وبالتّالي قد تُطرح علامات استفهام حول دوافع المُنفّذ الحقيقيّة وراء تنفيذه الحادثة في قاعدة أمريكيّة، وإذا كان لا يزال يحمل الأفكار المُتطرّفة التي لا تزال تُحاول السلطات الحاليّة التبرّؤ منها، وحمّلت إيران مسؤوليّة جزء منها، وأجبرت تيّار الصحوة الإسلامي على الاعتذار عنها علناً، وهي المَحشوّة سابقاً بمُوافقة سُلطات عُهودها الماضية في المناهج الدراسيّة السعوديّة، وتطرح تساءل إذا ما كانت ظُروف تنفيذ إطلاق النّار مُرتّبة، ومُتعمّدة للانتقام، وتحمل بصمات فرديّة أو تنظيمات جهاديّة، وهل من المُمكن أن يتبنّاها تنظيم بعينه، خاصّةً كما يتردّد أنّ المُنفّذ السعودي عبّر قبل تنفيذه هُجومه أنّه يكره الأمريكيين لارتكابهم جرائم ضد المُسلمين وأيضاً ضِد الإنسانيّة، وهو ما قد يُرجّح سابق إصراره وتعمّده، واختياره بعناية الزّمان والمكان، لتنفيذ هُجومه بطابع انتقامي للمُسلمين، ولعلّه غير عابئ بصداقة ومصالح بلاده مع الأمريكيين.

ومن الجدير ذكره أنّ تلك التنظيمات المُتطرّفة وأتباعهم، يستمدّون أفكارهم بالأساس من كتب الشريعة الإسلاميّة السعوديّة، وعلمائها ومذهبها الوهّابي، والذي كان يُدرّس في المدارس المتوسّطة، والثانويّة، وتُحرّض أفكاره على قتل الكفّار، وتحريم تهنئتهم بأعيادهم الدينيّة، كما جواز سبي نساءهم، وفتح بلادهم، حيث جرى العُثور على كتاب التوحيد للمرحلة الثانويّة السعوديّة في مناطق سبق للدولة الإسلاميّة “داعش” السّيطرة عليها في سورية والعِراق.

حادثة إطلاق النّار التي نفّذها المُتدرّب الطيّار السعودي، قد تُعيد للأذهان بشكلٍ أو بآخر كما يرصد مُعلّقون، حادثة استهداف برجي التجارة العالمي الشهيرة بطائرتين، وتطرح تساؤلات ما إذا كان “مُطلق النّار” المُنخرط ببرنامج تدريب الطيران بقاعدة بنساكولا الجويّة في فلوريدا مُنذ آب العام 2017، كان يعد لحادثة أكثر دمويّة، وعُنفاً، مُستفيداً من تدريباته الابتدائيّة على الطيران، ومُستهدفاً لعلّه أماكن حيويّة.

الحادثة كما تُرجّح أوساط سعوديّة، ستُضاف إلى قائمة “الإحراج” السعودي الدوليّة والأمريكيّة على وجه الخُصوص، ولا تخدم توجّهات الأكثر عقلانيّة، حيث حرب اليمن التي تعجز المملكة عن حسمها لصالحها، وجريمة مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي الدمويّة، إلى جانب مُقاطعة قطر، وطرح أسهم شركة أرامكو بغير أسواق البورصات الأمريكيّة ضمن مفاعيل مقتل خاشقجي وهرباً من العُقوبات، والفشل في رفع أسعار النفط، هذا كلّه، يُضاف إليه أخيراً إعادة توجيه أصابع الاتّهام بالمسؤوليّة بشكلٍ أو بآخر عن حادثة فلوريدا، أقلّه فشل السلطات، في إعادة تعريف عناوين الوسطيّة، والاعتدال بواقع فرط الانفتاح والترفيه، والذي ربّما كما تُقدّر الأوساط، لعلّه بدأ يُعطي نتائج عكسيّة لعلها “انتقاميّة”، فطابع الانفتاح السعودي المحلّي، يحمل بصمات أمريكيّة، سواءً بالشّكل، أو الهُويّة.

حادثة إطلاق النار التي نفّذها ضابط طيران في سلاح الجو السعودي، قد تحمل “فيروس” العدوى، وليس من المُستبعد أن تتحوّل إلى أسلوب ومنهجيّة وطريقة للاعتراض حتى على صعيد الجبهة الداخليّة، واستهداف القواعد الأمريكيّة والمقار الرسميّة، فتنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن وفي أوج مراحله، كان قد اتّبع أسلوب استهداف تجمّعات الأمريكيين وتفجيرها، وتحديداً التجمّعات السكنيّة المعروفة باسم “كومباوند”، وكما هو معروف تحوَلت الأخيرة، إلى أشبه بثكنات عسكريّة، يخضع الدّاخلون إليها للتّفتيش الدّقيق، لكن بعد تلك الحادثة، تبدو المَهمّة أصعب، فيما لو ثَبُت التّخطيط لها، أو حتى تبيّن أنها فرديّة، فكيف للسّلطات السعوديّة أن تستطيع التّمييز بين “المُتطرّفين” وغيرهم، وبالتّالي تقييم مدى ولائهم لها، ولحيلفها الأمريكي المُنتشرة قواعده العسكريّة على أراضيها، فها هو ضابط بسلاح الجو، يُفترض به أن يتقيّد بضوابط التحاقه بسلاح جو بلاده، وثابت الولاء يُفترض، أنهى حياته وقتل ثلاثة أمريكيين، وخلّف عدد مجهول من الجرحى في المُستشفيات.

الحادثة التي انشغلت بها وسائل الإعلام العالميّة، واختارت قناة “الجزيرة” القطريّة تناولها في خبرٍ مُقتضب على وقع أنباء قُرب المُصالحة الخليجيّة، وإمكانيّة مُشاركة الأمير تميم بن حمد في قمّة الرياض الثلاثاء، لم تقتصر على المُنفّذ، حيث ذهبت بعض التحليلات السعوديّة إلى القول إنها فرديّة، وقد يُعاني من مشكلات عقليّة، لكن السلطات الأمريكيّة اعتقلت ستّة أشخاص مُشتبه بهم، ويُشتبه بثلاثة منهم كانوا يُصوّرون عمليّة إطلاق النّار بحسب ما ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز”، هذا عدا عن نقل موقع “سات” الأمريكي تغريدة قال إنّ المُنفّذ الشمراني كتبها، ووصف فيها أمريكا بأنها “دولة شر”.

الاشتباه بثلاثة آخرين كان يقومون بتصوير الحادثة، فيما لو ثبُت، يُعلّل مراقبون وجوده، إلى مُخطّط مُتكامل جرى التّحضير له، ولعلّ التصوير قد يكون بمثابة “التوثيق” للانتقام، فعادة الأنظمة الجهاديّة “توثيق” عملياتها بالصّوت والصّورة في حال إعلانها تبنّيها العمليّة، أمّا توصيف المُنفّذ لأمريكا بدولة الشر، فهذا قد يُعيد تساؤلات حول مدى واقعيّة تغريدة الأمير ريما حول وحدة السعوديين، ومدى قُدرة السلطات السعوديّة على توحيد مشاعرهم على حب الأمريكيين، ومُواصلة التعامل معهم على أنهم “كفّار”، مما قد يعني أنّ تغيير أفكارهم يحتاج إلى استراتيجيّة طويلة المدى، وأكبر من مجرّد مواسم للرّقص والترفيه والغناء، يجري فيها تصدير المرأة للواجهة، حتى في “مُكافحة التطرّف والإرهاب” من على منابر المساجد، يتساءل مراقبون.

صحيفة رأي اليوم الألكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى