عاصمة النكتة العربية
” النكتة بجنيه واحد يا باشا، أنا عامل “ديسكاونت” للناس الحلوين اللي زي حضرتك.. و”برومو” كمان.. يعني على كل 10 أحكيهملك واحدة بلاش.. م تضحك يا راجل، انت مكشر كده ليه؟“.
هذا ما سمعته من بائع النكات المتجول، صباح يوم كنت فيه معكر المزاج، أنتبذ مكانا قصيا في حديقة عامة بقلب القاهرة، أرقب الكلاب الضالة تحت هالة من التلوث السمعي والبصري.
وافقت الشاب البشوش على عرضه، شريطة أن تكون نكاته طازجة. قال لي إن بضاعته مكفولة، وليست من الصنف المستعمل، وإذا تمكنت من إكمال النكتة قبل انتهائها، فمن حقي استبدالها بواحدة أخرى.
اتكلنا على الله، وطفق الشاب الظريف يسرد النكت بمهارة وحرفية عالية تدل على أنه متمرّس و”ابن إيه؟ ابن سوق”، إذ لا ينقص ارتقائه إلى رتبة شخصية المونولوجيست، في الكباريهات المصرية الكلاسيكية غير تلك الموسيقى التي تعقبها، عادة، وتفصل نكتة عن أخرى. راقت لي أول نكتتين، وبدأت أخرج من مزاجي السيئ، لكني لاحظت أن سلعته ” مهذبة أكثر من اللزوم” فطلبت أن يسمعني نكتا أكثر جرأة. سألني: قصدك ” ثقافية” حضرتك؟ وهنا، تجدر الإشارة إلى أن جمهور الشباب في مصر، يقصد من خلال كلمة ” ثقافية”، الموضوع الجنسي على وجه التحديد، باعتباره عنصرا يجعل النكتة أكثر جرأة وجاذبية وإضحاكا، إذ كلما همست بها لجليسك (أو جليستك) باستحياء، شقت الضحكة طريقها إلى العلن، كسرت الحواجز، وزادت من المودة والتعارف، فما بالك إن كان المُتوجه إليه بالنكتة، مديرك في العمل.
فاجأت صديقي البائع الظريف بأني أقصد ب” الجرأة” المسألة السياسية تحديدا، فتغيرت ملامحه، سكت هنيهة ثم قال “لا، نحن ما نشتغلش في الممنوعات يا فندم” وأطلق على إثرها ضحكة مجلجلة، استقبلتها بابتسامة، واعتبرتها نكتة مضافة ينبغي أن يُكافئ عليها.. ولعلها كانت أطرف نكتة سمعتها من جملة السلع المعروضة على الهواء الذي أصبح “طلقا” في ذلك الصباح الاستثنائي.
اقتحم جلستنا شاب ثان يقول إنه يبيع النكت أيضا، واتهم جليسي بأن ” النكتة دي مش بتاعتو”. تبادل الاثنان نظرات الاشمئزاز، وهمس لي صديقي بأن هذا ّ دخيل على المهنة” فخطر في بالي أن أقترح عليه إنشاء جمعية تحمي مهنته من الدخلاء، لكني تراجعت مستدركا بأن كل أفراد الشعبي المصري سوف يكونون أعضاء في هذا التجمع البهيج الذي ينتصر للحياة، ويعلن مصر المحروسة عاصمة أبدية للفرح.
غادرت الحديقة بمزاج رائق، بعد أن زودت الاثنين بكم من النكت، طالبا منهم تمصيرها كألطف ما يمكن أن تكافئ به شخصا فقيرا في جيبه، غنيا في خياله.