نشاط الحركة الصهيونية بين عامي 1897 و 1904
وجدت الصهيونية في الاستعمار طريقاً للوصول إلى تحقيق غاياتها، بينما وجد الاستعمار في الصهيونية العالمية جسراً لتدعيم نفوذه في المنطقة العربية من أراضي الدولة العثمانية. وأكَّدت الدول الأوروبية الاستعمارية، والصهيونية العالمية لليهود ضرورة السعي إلى السيطرة على مكانٍ يُعترَف به بأنه لهم. ونظرت الدول الأوروبية إلى المنطقة العربية على أساس أن الدين هو القومية بمعنى أن المسلم قوميَّته إسلامية، والمسيحي قوميَّته مسيحية، واليهودي قوميَّته يهودية. وعندما سُئِلَ حاييم وايزمن عن جنسيّته، أجاب: “أنا يهودي، روسي”. وحاول السائِل أن يقنع وايزمن أن اليهودية دين، وليست جنسيَّة قوميَّة، فردَّ وايزمن إن اليهودية جنسيَّة وقوميَّة، وأن كل يهودي حيث كان هو يهودي أولاً، وروسياً أو ألمانياً أو غير ذلك من بعد.
ويهود أوروبا الشرقية والغربية وغيرهم، لم يعرفوا فلسطين إطلاقاً، لا هم، ولا آباؤهم، ولا أجدادهم، ولكنهم على دين اليهوديّة، وقد تعرَّف اليهود على فلسطين من خلال ما نشرته جمعيات الآثار والدِراسات التوراتية، وما نتج من حركة الإصلاح الديني في أوروبا، وسارت المؤسَّسات والشركات الصهيونية على خُطى “شركة الهند الشرقية” و”شركات الأراضي الأوروبية”.
ولتحقيق هدف الصهيونية، تأسَّس عام 1901 م “الصندوق القومي اليهودي” لابتياع الأراضي في فلسطين، وفي عام 1897 م، بدأ النشاط الصهيوني-الدولي من أجل إنجاح عمليات التمويل الصهيوني لامتلاك فلسطين، فاتصل هرتزل بكِبار المُموّلين الأوروبيين، ومنهم اليهود، واتصل بأثرياء اليهود في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية.
ويبدو من خلال الاتصالات التي أجراها هرتزل مع كِبار الرأسماليين اليهود أن الحركة الصهيونية ليست حركة جماهيرية تنبع من إرادة الجماهير اليهودية، إنما يُمكن اعتبارها حركة رأسمالية استعمارية لأن مُرتكزاتِها تنطلق وتعتمد على الأُسُس الاستعمارية.
التوجّه الدبلوماسي
توجَّه هرتزل بجهوده الدبلوماسية بعد مؤتمر “بال” سنة 1897 م نحو الدولة العثمانية، والاتصال بالدول الأخرى: النمسا، وألمانيا، والمجر، وروسيا، وبريطانيا والفاتيكان وإيطاليا، ونجح مع بعضها في عرض المشروع الصهيوني.
كان هرتزل خلال مُفاوضاته لا يذكر الدولة اليهودية، ويكتفي باستخدام لفظٍ غامِضٍ بالنسبة إلى غير الصهيونيين، حتى أن ماكس كوردو اقترح على واضعي الصيغة النهائية للمُقرَّرات، اعتماد عبارة “وطن يهودي”، في فلسطين التي لا تفيد معنى “الدولة”، ولا تلزم بمسألة الحدود.
استطاع هرتزل الاتصال بالدول لعرض المشروع الصهيوني، مع الموافقة عليه بمقابل خدمات صهيونية-يهودية يُقدِّمها لتحقيق أغراضهم السياسية والاقتصادية، والعمل على مواجهة الحركات الثورية مع ثني اليهود عن الاشتراك فيها. ويُعتَبر المشروع الصهيوني ثمرة مُتقدِّمة جداً لفكرة التسرّب، والهجرة، والاستيطان اليهودي في فلسطين لإقامة الدولة اليهودية.
الاتصال بالدولة العثمانية
زار هرتزل الأستانة أول مرة في 18 حزيران 1896 م، وحاول إقناع إبن الصدر الأعظم بشراء فلسطين، ولم ينسَ هرتزل في مُباحثاته التجربة الاستعمارية التي أنشأت مُتصرفيّة جبل لبنان عام 1861 م. آمن هرتزل بمبدأ الرشوة ومنطق المال، وحاول مِراراً الاجتماع بالسُلطان إلا أنه لم ينجح في ذلك. وغادر إستانبول في 28 حزيران (يونيو) 1896م، بعد أن قضى فيها عشرة أيام.
وفي 13 أيار (مايو) 1901م، توجّه هرتزل إلى الأستانة، وكانت الزيارة الثالثة له، بعد الأولى 1896 م، والثانية1898 م، وبعد مُضيّ خمسة أيام من وصوله إستانبول، استطاع الحصول على مُقابلة السُلطان عبد الحميد الثاني بتاريخ 18 أيار (مايو) 1901م، عن طريق أرمينيوس فافيري.
حذَّر فافيري هرتزل قبل الاجتماع بالسُلطان أن يُحدّثه عن الصهيونية، والقدس مثل مكّة، وأرشده أن الصهيونية جيّدة ضدّ المسيحية، وبناء على نصيحة أرمينيوس، انطلق هرتزل بالتفاوض على أساس أن اليهود هم الحلفاء الطبيعيون للمسلمين ضد النصارى على حد زعمه.
استقبل السُلطان عبد الحميد الثاني هرتزل ليس كصهيوني، لكن كرئيسٍ لليهود وصحافي. وفي 18 أيار (مايو) 1901م، جرت المُقابلة، ورافقه حاخام اليهود في تركيا موسى ليفي. عرض هرتزل في المُقابلة الخدمات المالية لإصلاح الاقتصاد العثماني، وتصفية الدَين المُقدَّر ب 1،5مليون جنيه، وعرض توسّطه لوقف حملات صحف “تركيا الفتاة” في أوروبا، وألمح إلى أن الحركة الصهيونية تهدف إلى إيجاد ملجأ لليهود في الأراضي المُقدَّسة، فلسطين.
وفي 12 شباط 1902 م، زار هرتزل إستانبول للمرة الرابعة، لكن لم يستطع مُقابلة السُلطان عبد الحميد الثاني، وفي 17 آذار (مارس) 1902م، أوضح السُلطان العثماني موقفه بالرفض رفضاً قاطِعاً لمشروع الاستيطان اليهودي في فلسطين، وحاول هرتزل إغراء السُلطان عبد الحميد الثاني بالمال بعروضٍ ماليةٍ جديدةٍ، إلا أن السُلطان رفض العرض الجديد، وإنه لا يريد مال الصهيونية.
وفي 3 أيار (مايو) 1902م، اتصل هرتزل بالحكومة العثمانية مُتّبعاً أسلوباً يقضي على الحركات الثورية بين شباب الأتراك، عن طريق تأسيس جامعة يهودية في القدس، فرفض السُلطان المشروع، ورأى فيه سياسة استيطانية أكثر من مشروعٍ ثقافي.
استمرّ هرتزل في عرض مطالبه إذ طلب من إيطاليا التوسّط لدى الباب العالي للحصول على حق امتياز سنجق عكا، مقابل مال للخزينة العثمانية، وقدره مائة ألف ليرة تركية، وطلب من إيطاليا أيضاً مُراسَلة عبد الحميد الثاني للحصول على توصيةٍ باستعمار فلسطين.
أفهم السُلطان عبد الحميد الثاني وسطاء هرتزل رفضه القاطِع تحقيق مشروع هرتزل الصهيوني في فلسطين، وقال لهم: “إنصحوا هرتزل بألا يتّخذ خطوات جديدة في هذا الموضوع لأني لا أستطيع أن أتخلَّى عن شبرٍ واحدٍ من الأرض، فليحتفظ اليهود بملايينهم. إذا مزّقت امبراطوريتي فعلّهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن.. وإني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا، ونحن على قَيْدِ الحياة”.
وكان للموقف الذي اتّخذه السُلطان عبد الحميد الثاني نتيجة قناعة وشعور منه بأن الهدف من تدخّل الدول الأوروبية في المسألة اليهوية، هو زرع شعب غريب في فلسطين، والعمل على إضعاف الدولة العثمانية.. ليجري بعد ذلك تقسيمها، والسيطرة على كافة مناطقها. وظلّ هرتزل حتى آخر أيامه يسعى من أجل تحقيق مشروع الدولة اليهودية في فلسطين، وفي تموز 1904 م، فقدت الحركة الصهيونية زعيمها هرتزل، فطويت بذلك صفحة من النشاط الصهيوني السياسي.
وبالرغم من فشل هرتزل، فقد كانت “جمعية الاستعمار اليهودي” تواصل نشاطها في فلسطين، بأساليب غير قانونية مُعتَمِدة على شراء الأراضي من الإقطاع اللبناني، وعلى أساليب الرشوة مع الإدارة العثمانية كي تتغاضى عن عمليات الشراء.
تفاوضت “جمعية الاستعمار اليهودي” مع عائلة سرسق التي كانت تمتلك وحدها مساحات شاسعة من فلسطين، تُتاجِر بها، وتستثمرها، وتفاوضت أيضاً لشراء 97 قرية فلسطينية، وكانت عائلة سرسق تعيش في باريس، وخسرت أموالها في القمار، وأصبحت العائلة بأمسّ الحاجة إلى بيع ممتلكاتها التي تعادل 3% تقريباً من مساحة فلسطين بسبعة ملايين فرنك. لقد تحوَّلت “جمعية الاستعمار اليهودي” عن الأرجنتين، ولم تعد تستثمر أموالها إلا في فلسطين.
وواصل هرتزل نشاطه مع الرأسمالية اليهودية لشراء بعض أملاك اللبناني إلياس سرسق الذي طلب 25 فرنكاً للدونم الواحد، بينما لم يكن الدونم يساوي أكثر من 15-18 فرنكاً، استطاعت الحركة الصهيونية شراء أراضي سرسق، وغيرها في سهل مرج الله عامر، ما أدَّى إلى إثارةِ وسَخْطِ الفلاحين الفلسطينيين لأنه سيؤدّي إلى طردهم من الأراضي التي كانوا يعملون فيها.
الميادين نت