ماذا يعني القصف السوريّ لقوّات تركيّة في سراقب ومقتل ستّة جُنود أتراك؟ وما هي الرّسالة الروسيّة لأردوغان؟ وهل مزّق الروس والأتراك اتّفاق سوتشي؟ ومن سيَخرُج فائِزًا في معركة كسر العظم في إدلب؟
تَعكِس الصّدامات السوريّة التركيّة في مِنطقة إدلب التي أدّت إلى مقتل ستّة جُنود أتراك وإصابة تسعة آخَرين إثر قصف للجيش العربيّ السوريّ رتلًا عَسكريًّا تُركيًّا قُرب مدينة سراقب نفاذ صبر الجانب الروسيّ تُجاه تلكّؤ الرئيس رجب طيّب أردوغان في تنفيذ التِزاماته بإخراج القوّات التّابعة لجماعات وفصائل مُصنّفة على قائمة الإرهاب من مدينة إدلب التي جرى الاتّفاق عليها عام 2017 بأنّها مِنطقة خفضُ تصعيد.
بعد تساقُط القرى والبلدات السوريّة الخاضِعة لسيطرة هيئة تحرير الشّام (النصرة) وحُلفائها في ريف إدلب، الواحِدة تِلو الأخرى، أمام تقدّم الجيش العربيّ السوريّ، وخاصّةً استعادته لمدينة معرّة النعمان الاستراتيجيّة وبات على وشَك استِعادة مدينة سراقب، وجد الرئيس أرودغان نفسه في حرجٍ كبيرٍ أمام حُلفائه في المُعارضة السوريّة المسلّحة، وبات يُواجه خطر سُقوطٍ وشيك لمدينة إدلب ممّا يعني تدفّق مِئات الآلاف من سُكّانها عبر الحُدود التركيّة في الوقتِ نفسه، الأمر الذي دفعه للإقدام على أكبر مُقامرةٍ مُنذ بَدء تدخّله في الأزَمة السوريّة قبل تسعة أعوام، وذلك بإرسال رتلٍ عسكريٍّ من 350 عربة مُدرّعة إلى سراقب، وفتح مخازن أسلحته لدعم قوّات المُعارضة المُدافِعة عنها، الأمر الذي يعني انهِيار مُعظم، إن لم يَكُن كُل، تفاهماته مع حُلفائه الروس.
***
الرواية الرسميّة الروسيّة التي وردت على لِسان ديمتري بيسكوف، النّاطق باسم الكرملين، تقول بأنّ الأتراك لم يُخطِروا موسكو، رغم وجود قنوات اتّصال مُخصّصة لمِثل هذا الأمر، بإرسالهم قوّات إلى سراقب ليل الأحد الاثنين، الأمر الذي دفع بالجيش السوري إلى قصفها وقتل ستّة عناصر، ونفى المتحدّث الروسيّ نَفيًا قاطِعًا ما ورد على لِسان الرئيس أردوغان من أنّ الطائرات التركيّة من طِراز “إف 16” قصفت القوّات السوريّة وأوقعت خسائر بشريّة تصِل إلى 35 قتيلًا، وقال إنّ روسيا تُسيطِر على الأجواء السوريّة، ولم يَحدُث أيّ اختِراق للطائرات التركيّة لها، ممّا يعني روسيا أنّ الرئيس أردوغان لم يَقُل الحقيقة، كما أنّ وكالة الأنباء السوريّة “سانا” قالت إنّه لم تقع أيّ خسائر بشريّة في صُفوف القوّات السوريّة نتيجةً للقصف التركيّ.
ما يُمكِن استنتاجه من كُل ما تقدّم أنّ الجانب الروسيّ عندما وجد نفسه أمام خِيار صعب بين الحليفين السوريّ والتركيّ، فضّل الوقوف في خندق الحليف السوريّ القديم في مُواجهة الحليف التركيّ الجديد، بعد أن طفَح كيله من مُراوغة الرئيس أردوغان، وعدم تنفيذه لتعهّداته التي التَزم بها في اتّفاق سوتشي عام 2018 بإخلاء إدلب من الجماعات الإرهابيّة.
أردوغان لم يستطع، أو بالأحرى لم يرد، “لجم” هيئة تحرير الشام (النصرة سابقًا)، ووقف هجَماتها على الجيش السوريّ في ريفيّ إدلب وحلب، والأكثر من ذلك أنّها خرقت خطوط حُمر كثيرة عندما قصفت أكثر من مرّة، بطائرات مُسيّرة، القاعدة الجويّة الروسيّة في حميميم قرب اللاذقيّة، الأمر الذي أثار غضَب الروس، وجعلهم يتّخذون قرارًا بشنّ هُجومٍ مُشتركٍ مع الجيش العربيّ السوريّ لاستعادة إدلب عبر الخِيار العسكريّ بعد فشَل الخِيار السياسيّ.
من الصّعب علينا أن نتنبّأ بكيفيّة تطوّر المُواجهات العسكريّة على هذه الجبَهة التي تزداد سُخونةً، ولكن من الواضح أنّ استِمرار التدخّل العسكريّ التركيّ يعني الصِّدام بين تركيا وروسيا، وتعرّض القوّات التركيّة في ريف إدلب للقصف الروسيّ السوريّ المُزدَوج، إلا إذا هاتَف الرئيس أردوغان كالعادة الرئيس فلاديمير بوتين، في موسكو بحثًا عن تسويةٍ، أو هُدنةٍ، تنزع فتيل التوتّر وتُوقِف المُواجهات، على أرضيّة استِعداده لتنفيذ التِزاماته باتّفاق سوتشي، والتخلّي عن جبهة “النصرة” والفصائل المُوالية لها.
إنّها معركة كسر عظم، فمِن الواضح أنّ الجانبين الروسيّ والسوريّ ليسَا بصَدد التّراجع عن إكمال جُهودهما لاستعادة السّيطرة على إدلب، بينما يُريد الرئيس أردوغان تجنيب حُلفائه المُسيطرين عليها الهزيمة، ومُواجهة التصفية الدمويّة، وخاصّةً المُصنّفين على قائمة الإرهاب منهم.
عندما يقصف الروس الجماعات المسلّحة في مدينة الباب، ويُهدّدون بقصف جرابلس وعفرين، فهذا يعني تمزيق اتّفاق سوتشي بعد اختِراق الجماعات المُوالية لتركيا له وقصف قوّات الجيش السوريّ وهي التي تعهّد الرئيس أردوغان بأنّ مَهمّتها الأساسيّة والوحيدة مُهاجمة قوّات الحماية الكُرديّة المسلّحة فقط.
تصريحات الرئيس أردوغان التي أدلى بها في كييف التي طار إليها “نِكايةً” بالروس، وشدّد فيها على دعم أوكرانيا ووحدة تُرابها بِما في ذلك استِعادة سِيادتها على القرم التي ضمّتها روسيا تَعكِس تصعيده ضِد الحُلفاء الروس، وهذا تطوّرٌ “استفزازيٌّ” خطيرٌ من جانِبه ربّما لن يتَقبّله الرئيس بوتين بسُهولةٍ.
***
مقتل ستّة جُنود أتراك، ولأوّل مرّة مُنذ بداية التدخّل التركيّ في الأزَمة السوريّة وإصابة تسعة آخرين تطوّرٌ خطيرٌ ستكون له انعِكاساته الداخليّة، فالرأي العام التركيّ الذي انقلب مُعظمه ضِد المُهاجرين السوريين، وأسقط مرشّح حزب العدالة والتنمية في انتِخابات بلديّة إسطنبول، لن يكون من السّهل عليه هضم وقُبول سُقوط قتلى من أبنائه في سورية خاصّةً إذا علمنا أنّ 34 بالمِئة من الأتراك أيّدوا التدخّل في ليبيا لمُعارضتهم أيّ خسائر بشريّة في صُفوف الجيش التركيّ، بينما عارضه أكثر من 60 بالمِئة، للسّبب نفسه، فكيف سيكون الحال لو تحوّل التدخّل التركيّ في سورية إلى حربِ استنزافٍ مع الروس والسوريين؟
تِسع سنوات من القتال، وإنفاق أكثر من 200 مِليار دولار، وتجنيد أكثر من 250 ألف مُقاتل، وتدخّل 65 دولة بينها أمريكا وفرنسا وبريطانيا كلها لم تُسقِط النظام السوري، ولا نعتقد أنّ إرسال بِضعَة مِئات من القوّات التركيّة إلى سراقب ستُغيِّر هذه الحقيقة.
كشْف فرنسا لإرسال تركيا سفينة أسلحة إلى القوّات المُوالية لحُكومة فايز السراج في ليبيا، واعتِقالها لإسلام علوش، النّاطق باسم جيش الإسلام بتُهمة ارتكِابه جرائم حرب، وقصف روسيا لقوّات “النصرة” في الباب كلها رسائل إلى تركيا تُؤكِّد بأنّ الظّروف تغيّرت، وأنّ مُعَسكر الأعداء يتّسع، فهل تَصِل هذه الرّسائل إلى هدفها وتفتح عُيون القِيادة التركيّة إلى المأزَق الذي تنجرِف إليه بعُيونٍ مَفتوحةٍ.
سورية كانت، وما زالت، مِصيدةً أمريكيّةً لتركيا، والآن تُضاف إليها مِصيَدة أُخرى في ليبيا، والروس الخصم الأكبر لها في البَلدين، فهل هُناك من مُذَكِّرٍ في أنقرة؟ نأمَلُ ذلك.
صحيفة رأي اليوم الألكترونية