حمدي العطار: الروائي كريم صبح يقدم: رواية تتجاوز الواقع الذي تتحدث عنه
في رواية (الوجه الآخر للضباب) الصادرة من دار سطور سنة 2020 تحضرني مقولة لهنري جميس في (إن الروائي هو الشخص الذي لا يمكن إن يخسر شيئا)هي ما ينطبق على مغامرة الروائي ” كريم صبح” في كتابة هذه الرواية الاولى بعد ان قدم من قبل مجاميع ققص قصيرة!
في هذه الرواية التي تتكون من 26 فصل لكل فصل عنوان تعدد فيها مستويات السرد مع تلاعب في التسلسل الزمني وتغيير سريع للأمكنة التي احتلت فيها (روسيا مكان عمل كرستينيا ومكان لقاء د. ثروت السوري القادم من الشرق لأغراض البحث والدراسة في معاهد موسكو) هنا لا يجعل السارد وجود عوائق امام الحب والارتباط وحتى الزواج على الرغم من اختلاف الهوية الدينية والقومية بل حتى الاجتماعية، لأن ثروت كان متزوجا في سوريا ولديه ثلاثة ابناء لكنه لا يقدم نفسه الا عازبا ليفوز بقلب كرستينيا) هنا يوجد تجاوز على الواقع ، ويبدو الاستغراب لا يقتصر على القارئ وحسب بل حتى على ثروت وكرستينيا “أمال رأسه جهتها في اللحظة التي حررت يديها من المقود، تلاقت العيون، تقارب الوجهان، امتزجت أنفاسهما، اختلط عطراهما، كل منهما يكاد يسمع وجيف فؤاد الآخر، عشقا بعضهما في غضون ثلاث ساعات، بعض قصص الحب احتاجت إلى ثلاث سنوات لتبدأ، غابت المسافة بين شفاههما، تلامست من غير أن تطبق على بعضهما”ص46
استخدم الروائي اساليب متنوعة للسرد فبعد الاستهلال الذي يعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي بين (روزالتين) نصف روسية ونصف سورية وهي بنت كرستينيا وثروت، يتوقف الروائي عند وصف دقيق لمدينة سانت بطرسبرج الروسية وريفها :وهو المكان الثاني الذي يمهد للحديث عن الجيل الاول في الرواية وهم يعيشون في ظل النظام الشيوعي في بلد كان يطلق عليه (الاتحاد السوفيتي) فهناك اشارات الى موقف كبار كتاب روسيا من هذه المدينة (سانت بطرسبرج) فيقول عنها دستوفسكي في روايته (في سردابي) “إن مناخ بطرسبرج مضر بصحتي…، وأنه لمخلوق زاد حظه سوءا على سوء فاستوطن بطرسبرج، هذه المدينة هي أكثر مدن الارض عسرا على الفهم..”ص9 ومثل هذا التوصيف قد تسمعه من غوركي وتشيخوف، بينما يتدارك الروائي ليمدح نفس المدينة بعد ان تجاوزت عصر الانغلاق لتصبح (عروس المدن الروسية)”أمست في قرنها الحادي والعشرين – مدينة سياحية من الطراز الأول “ص10
في الرواية هناك رجوع بالزمن (الفلاش باك) لبيان تكوين اسرة روزالتين ، فالجد من قرية في مدينة بطرسبرج والجدة من المانيا قصتهما تمتزج مع قصة الاتحاد السوفيتي حتى الانهيار نتيجة اصلاحات غورباتشوف وفترة البيروسترويكا ، ويمتد هذا المحور- وهو الاجمل من وجهتي نظري من باقي المحاور في الرواية- يمتد بعناوين (اللواء، نخب اتحادنا السوفيتي،شغف،إعادة وصل،روزالين،طفولة،شتات،فقد،صلاة،اكتشاف متأخر،اندريه المشاكس) من ص19 الى ص104 ، بدت السردية متماسكة وتسير بالمتلقي بإنسيابية تاريخية توحي بقدرة ومعرفة الروائي بالمجتمع السوفيتي الذي تحول الى المجتمع الروسي وتأثير هذا الانقلاب او التغيير على شخصيات الرواية في المحور الروسي،
وسوف يتوقف المتلقي عند جمل وعبارات تدعو الى التأمل والتأويل ، فهذا الجزء هو الذي يمثل روح الرواية ، وهو جوهر الرواية حينما تلبس ثوب التاريخ، حتى ان السارد هنا هو الروائي العليم يذكر في اكثر من فقرة عبارات تمثل فلسفة التاريخ السياسي، فالكلام عن بوتين بين اللواء العسكري المتقاعد وابنه المشاكس اندريه والمتاثر بثقافة الغرب الرأسمالي ويتزوج يعيش في فرنسا يكون على هذه الشاكلة “شيء واحد لم يتخل عنه ولم يقل اهتمامه به، مع أنه أمسى ماضيا: الاتحاد السوفيتي والتغني بماضيه المجيد” وعندما يسير النقاش لتقيم التدخل الروسي في الحرب بسوريا، وعن شخصية بوتين يقول الاب “هو من عائلة خدمت الوطن بإخلاص، ما لا تعرفه يا اندريه أن جنديا سوفيتيا أمضى مدة طويلة في حربنا ضد المانيا النازية حصل على إجازة سمحت له بالعودة إلى منزله في مدينة لينيغراد….عند وصول الجندي إلى الشارع الذي يقع فيه منزله، رأى شاحنة عسكرية محملة بالجثث ومتوقفة على جانب الطريق بسبب القصف المعادي…الجندي الذي وقف حزينا أمام الجثث المتكدسة، رأى حذاء في قدم سيدة يشبه الحذاء الذي اشتراه لزوجته قبل التحاقه بالجبهة… تفحص جثة السيدة، أكتشف أنها زوجته بالفعل، لم يشأ أن تدفن في مقبرة جماعية، طلب من الجنود الذين تعاطفوا معه سحبها من الشاحنة لنقلها إلى منزله قبل دفنها بشكل لائق، المفارقة السعيدة أنه اكتشف- اثناء عملية النقل- أنها ما زالت حية، وتتنفس بصعوبة، حملها إلى المشفى، هناك أجريت لها الاسعافات التي اعادة لها الحياة، بعد سنوات على الحادث، وضعت طفلا، هو رئيسكم بوتين”ص100
في الرواية بهذا المحور ايضا السارد يملك معلومات وافية يشبه من يكتب في ادب الرحلات عن الطقس والبرودة والثلوج والاطعمة ” البورش ، هو عبارة عن حساء ذي مذاق حلو وحامض، يصنع من الشمندر ويقدم باردا في الصيف وساخنا في الشتاء”ص101 و”جالوشكا ، رغيف خبز صغير ..محشو بالجوز.. صنع الكعك بالعسل والجبنة، يمزجون الطحين والعسل والجبنة السائلة والبيض ويضعون الخليط بالفرن المنزلي”ص74 اما عن الامكنة فهي”شارع نيفسكي التاريخي،شارع دومسكايا ، القصر الصيفي، القصر الشتوي، قصر ميخائيلوف، قصر ماريا، القصر الرخامي،كاتدرائية القديس اسحاق، كنيسة المخلص بالدم، كاتدرائية سيدة كازان، مسجد سانت بطرسبرج، واخيرا متحف الارميتاج” كل هذه الامكنة يذكرها السارد من وجهة نظر السياحة لمدينة سانت بطرسبرج، ولو كان الروائي مقيم في هذه المدينة او حتى قد قام بزيارتها ولو لمرة واحدة كما كنا نعتقد! لكن الروائي “كريم صبح” يجيب عن سؤال يخص هذه الرواية (بإنه لم يزور اصلا روسيا ولم ير مدينة سانت بطرسبرج! ألم نقل بإن الروائي قد تجاوز الواقع الذي تتحدث عنه الرواية؟
كريم صبح وهو يبني المعمار الانساني لشخصيات روايته جعل البناء من طابقين، الطابق الاول توقفنا عنده كان يمثل تاريخ الشخصيات ممزوج بتاريخ المدن موسكو وسانت بطرسبرج، وكان بودنا لو اتسع هذا الطابق ليكون البناء الدرامي للرواية من طابق واحد، ولا بأس ان يحتوي البناء على (سرداب) تحت الارض، لا ان يحلق الى الطابق الثاني والذي يمثل (مذكرات) البطلة (روزالين) لا اعرف اجدني منجذب بشكل كبير الى إ(كرستينا) فهي شخصية روائية بإمتياز ، اما (روزالين) فإجدها شخصية غير ناضجة فنيا! وكنت اتمنى ان يلعب اسلوب كريم صبح (ما بعد الحداثة) وهو كاتب قادر على المكر! اقول ان يستخدم المرونة ويأخذ من روزالين مذكراتها ليكتبها بالاسلوب الذي سرد فيه التاريخ في المحور الاول وهو القائل ” اجد التاريخ رواية طويلة بلا نهاية”ص40 لا ان يترك زمام السرد الى روزالين التي تؤكد لحبيبها الضابط الطيار بإنها “تمقت التاريخ والسياسة ورجالها”ص8 .
مثلما ما توقعت ونحن نصعد الى الطابق الثاني من الرواية لننتقل من موسكو وسانت بطرسبرج الى دمشق واللاذقية ويترك الكاتب البارع قيادة السردية لفتاة تعاني من البحث في (الهوية) وليس عن (الهوية) نفقد الكثير من الاثارة التي تمتعنا بها في المحور الاولى وتغيب عن السردية عبارات الفلسفة والعاطفة والامتزاج بين الواقعية والرمزية ، حتى تجدني استحضر تلك العبارات الذكية من الرواية في المحور الاول وانا اتحدث عن المحور الثاني الذي لم اخرج منه الا كئيبا”فرش طابقه الاول بالسجاد الأحمر، الأحمر!! اللون يرمز الى الإشراق والإثارة والعواطف الجياشة، لكنه هنا يرمز إلى الشيوعية”ص27 ، وعندما يصف كرستينيا وحديثها “بدا دفقا من فم دائري خلق للقبل الطويلة”ص39 ،، اما اندريه وهو يصف حال امه بعد فقدان زوجها اللواء وابنتها كرستينا وسفر حفيدتها روزالين “توجع وهو يراها تتعثر بذكريات الثلاثة” ص102
في المذكرات كان التركيز على روزالين وهي تعيش في دمشق واللاذقية وما تعانيه من اخوتها الثلاثة من اضطهاد ومن زوجة ابيها من كراهية ومن ضعف شخصية ابيها امام زوجته، لم نرى الا الحرمان ومآسي الحرب الاهلية في سوريا، وما تتعرض له روزالين وثروت عند حدوث انفجار وهدم البيت والهجرة الى بيروت والرجوع الى اللاذقية” لا مهرب لأي منا من التاريخ، عاد يذكرنا بعفنة وتعاسة الشعوب العربية، في سياق الحرب الاهلية ظهرت مليشيات وتنظيمات اسلامية مسلحة، بعضها قاتل ضد النظام، وبعضها الآخر حارب معه، مع أن أغلب مقاتليها لا يتحدثون العربية، بدأ الدفاع عن العقيدة والمذهب حجة مربحة للطرفين”ص145 ،،
لا يمكن تجاهل الانفصال بين المحرين وتأثيره الواضح على جمالية الشكل الفني للرواية وحاول جاهدا الروائي ان تبقى الاثارة متوفرة على طول الرواية فكتب الفصل السابع وعنوانه (جمال وفرح.. مع وقف التنفيذ) لتتحدث روزالين بقلم السارد المؤلف عن اللاذقية ويعود التناسق والتماسك في هذا الفصل لبنيان الرواية ” الفينيقيون أطلقوا عليها اسم “أوغاريت” سماها السلوقيون “لاوديكيا”، “جوليا” هو الاسم الذي اطلقه عليها “يوليوس قيصر” عرفت باسم “لاذقية الشام” عند قيام الحكم الأموي في دمشق، القابها المشهورة “عروس الجمال” و”عروس المتوسط” ربما هي المدينة الوحيدة التي أنفردت بستين وصفا، تطري جمالها”ص147
في قراءتنا لهذه الرواية لا يمكن ان نركز على تحليل المضمون ووظيفة السرد لأن الروائي استخدم السرد ما بعد الحداثة وجب علينا الاشارة الى العناصر المهيمنة على النص، وهو الايقاع في السرد، وكان سريعا من خلال سرعة الاحداث وتطور الشخصيات، كما ان كريم صبح حجز قسم كبير من الرواية للحديث عن (صراع الهويات) بل على الاصح (أنعدام الهوية) عند البطلة روزالين من خلال (مذكراتها)!
ومهما نسجل على الرواية من ملاحظات لكننا لا بد من الاشادة بقدرة الروائي “كريم صبح” ان يقدم رواية جميلة وراقية تستحق القراءة والتأمل.
صحيفة راي اليوم الالكترونية