ثلاثة خِيارات أمام مِصر للتّعاطي مع الانسِحاب الإثيوبي من مُفاوضات سدّ النهضة ولجوء أديس أبابا إلى التّصعيد
عندما تنسحب الحُكومة الإثيوبيّة من الجولة الأخيرة من المُفاوضات الثلاثيّة حول سدّ النهضة التي ترعاها الإدارة الأمريكيّة وصندوق النقد الدولي في واشنطن تهرّبًا من توقيع النّص النّهائي للاتّفاق الذي تبلور من خِلال اجتماعاتها التي عُقِدت على مُستوى وزراء الخارجيّة والرّي في البُلدان الثلاث (مِصر وإثيوبيا والسودان) فهذا يعني أنّها لم تكن جادّةً على الإطلاق في القُبول بأيّ حل سلميّ، وستمضي قُدمًا في خُططها بمَلئ خزّانات السد بالكميّة المطلوبة (74 مِليار متر مكعب) في الفترة الزمنيّة التي تُقرّرها، ودون أيّ مُراعاة للأضرار التي يُمكن أن تلحق بالجانب المِصري، وأبرزها تجويع ملايين الفلّاحين المِصريين وانخِفاض كميّات الكهرباء من السد العالي نتيجة مباشرة لانخِفاض حصّة مِصر من مياه النيل.
الحُكومة المِصريّة أرسلت وفدها إلى واشنطن ووقّعت الاتّفاق بالأحرف الأولى لإظهار حُسن نواياها، ولكن إثيوبيا قاطعت ولم تُرسِل وفدها إلى واشنطن، بينما امتنع الوفد السودانيّ عن التّوقيع في خطوةٍ ربّما تُفسّر على أنّها تضامنيّة مع الموقف الإثيوبي ستَنعكِس سلبًا على العُلاقات المِصريّة السودانيّة حتمًا.
الحُكومة الإثيوبيّة قالت أنّها ستمضي قُدمًا في مشاريعها لبناء السّد وملئ خزّاناته لأنّ النيل الأزرق الذي يُقام عليه السد وينبع من مُرتفعاتها، والسّد سدّها، والمسألة مسألة سيادة وطنيّة غير مسموح لأيّ أحد التدخّل فيها، في إشارةٍ إلى المطالب المِصريّة في ضرورة التوصّل إلى اتّفاق ثُلاثي يحفظ مصالح الجميع، ويَصون حصّة مِصر المائيّة من مياه النيل.
لا نعتقد أن الإدارة الامريكيّة ستحترم هذا الموقف المِصري “المسؤول” وتُقدّره، لأنّها مِثلما هو واضح، تقف في الخندق الإثيوبي، وبضُغوطٍ من الحُكومة الإسرائيليّة، الأمر الذي يتطابق مع تعاطيها مع الجانب العربيّ في قضيّة الصّراع العربيّ الإسرائيليّ، أيّ تبنّي الموقف الإسرائيليّ بالكامل، وليذهب العرب إلى الجحيم، وصفقة القرن، وضم القدس المحتلّة، وهضبة الجولان، والمُستوطنات الدّليل على ما نقول.
مايك بومبيو الذي زار أديس ابابا قبل أسبوع صرّح بأنّ الاتّفاق الثّلاثي المُتعلّق بسد النهضة الذي أعدّته حُكومته لن يُوقّع في موعده، وربّما يستغرق الأمر عدّة أشهر، ممّا يَعكِس تنبيه للموقف الإثيوبي، وإدارة الظّهر للحليف المِصري ومطالبه العادِلة.
السّؤال الذي يطرح نفسه بقوّةٍ هو عمّا يُمكن أن تفعله الحُكومة المِصريّة في ظِل هذا التّآمر الأمريكيّ الإثيوبيّ ضدّها، والضّرب بعرض الحائط بكُل مصالحها الاستراتيجيّة ومخاطر هذا السّد على أمنها المائيّ؟
هُناك ثلاثة خِيارات أمام الحُكومة المِصريّة:
الأوّل: أن تُدافع مِصر عن مصالحها وأمنها المائيّ، بضرب هذا السّد وتدميره وتحمّل النّتائج كاملةً، وهي تملك القوّة والطائرات القادرة على القِيام بهذه المهمّة.
الثّاني: أن تُعلن حربًا بالإنابة طويلة الأمد ضِد إثيوبيا، وتدعم أعداءها في القرن الإفريقي، وتثوير حركة تحرير إقليم أوغادين الصوماليّة الذي ضمّته إثيوبيا، وكذلك الحركات الانفصاليّة الإسلاميّة الأُخرى داخل إثيوبيا، وتتبنّى وجهة نظر إريتريا في الخِلاف الحُدودي الأريتري الإثيوبي، وإعادة إحياء هذا الخِلاف بطريقةٍ أو بأُخرى، والمُخابرات المِصريّة لها باعٌ طويلٌ في القرن الإفريقي.
الثّالث: أن تستسلم الحُكومة المِصريّة لأساليب المُناورة الإثيوبيُة، وتخضع للأمر الواقع تَجنُّبًا للحرب وما يُمكن أن يترتّب عليها من خسائرٍ.
رفض حُكومة السودان توقيع الاتّفاق أسوةً بمِصر ربّما يُفسّر على أنّه تواطؤ مع إثيوبيا وابتعاد، أو تخلٍّ، عن الجار المِصري وروابط العُروبة والإسلام التي تربط البلدين، خاصّةً أنّ الحكومة السودانيّة تلقّت وعودًا إثيوبيّة بسد حاجَتها من كهرباء السّد وبأسعارٍ رخيصة، أيّ أنّ هذه الحُكومة تذرّعت بإعطاء الأولويّة لمصالحها الوطنيّة الداخليّة، وقدّمتها على الروابط الأخويّة القوميّة والإسلاميّة والعربيّة، وهو العُذر نفسه الذي ساقَه الفريق عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السوداني، لتبرير لقائه مع بنيامين نتنياهو مُؤخَّرًا في أوغندا.
أصواتٌ عديدةٌ داخِل مِصر بدأت تنتقد أُسلوب حُكومتها في إدارة أزمة سد النهضة، وارتِكاب أخطاء عديدة في هذا الإطار أبرزها ألا تُخدَع بالنّوايا الإثيوبيّة الزّائفة التي عبّر عنها السيّد آبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي، أثناء زيارته إلى القاهرة قبل ما يقرب العام، وحِلفه على المُصحف بأنّه لن يُقدِم على أيّ خطوة تُلحِق الأذى بمِصر وأمنها المائيّ، حتّى أنّ صُقور هذا المُعسكر انتقدوا بشدّةٍ خطوة حُكومتهم الأخيرة بتوقيع الاتّفاق الذي رعته أمريكا بالأحرف الأُولى وما ورد فيه من تنازلاتٍ وحُلولِ وسط ودون أيّ مُقابل إثيوبي أو حتّى سوداني.
هل تَلجأ مِصر إلى الخِيار العسكريّ بعد انهِيار تِسع سنوات من المُفاوضات “العبثيّة” مع إثيوبيا حول سدّ النّهضة على غِرار مُفاوضات أوسلو الفِلسطينيّة الإسرائيليّة؟
لا نملك الإجابة، ولا نَستبعِد التّأجيل والتريّث تَجنُّبًا لمخاطر الحرب، خاصّةً أن المنظومات الدفاعيّة الإسرائيليّة هي التي تُوفِّر الحِماية لسد النهضة، والمُستشارون الإسرائيليّون هُم الذين يَقِفون خلف هذا الموقف الإثيوبي المُتشَدِّد.
رأس الافعى السامّة يُوجَد في تل أبيب، وليس في أديس أبابا، فهل تُدرك الحُكومة المِصريّة هذه الحقيقة وتتعاطى معَها على هذا الأساس؟
صحيفة رأي اليوم الألكترونية