دورنمات: أبوحنيفة وأنان بن داوود صراع من أجل الحرية
تتضمن هذه المجموعة القصصية للكاتب السويسري فريدرش دورنمات ترجمة ثلاث قصص من أهم ما كتبه هي “النفق”، “العطل”، و”أبوحنيفة وأنان بن داوود” مأخوذة من كتاب “روائع دورنمات القصصية” الصادرة عام 1992 عن دار نشر ديوجنيس السويسرية، وترجمها للعربية وقدم لها سمير جريس الذي أثار قضية مهمة ترتبط بموقف دورنمات من الصراع العربي الإسرائيلي متطرقا إلى لقاء دورنمات ويوسف إدريس وما كتبه الأخير حول رؤية دورنمات للقضية، خاصة وأن القصة الأخيرة تتجلى فكرتها الرئيسية في الصراع بين اليهود والمسلمين من خلال شخصيتي أنان بن داوود وأبوحنيفة، والذي ينتهي “يفهم كلاهما ويدرك أن الملكية التي تنازع عليها الاثنان ـ سجن أبي حنيفة وزنزانة أنان بن داوود ـ هي الحرية بالنسبة للآخر، بالنسبة لكليهما”.. وقد كتبها دورنمات بعد زيارته لإسرائيل عام 1972.
يقول سمير جريس في مقدمته للترجمة الصادرة عن دار الكتب خان “بزغت شهرة الكاتب السويسري فريدريش “1921 ـ 1990” في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بعد أن كتب مسرحياته الكبيرة مثل “رومولوس العظيم”، و”زيارة السيدة العجوز” و”علماء الطبيعة”. آنذاك لمع اسمه باعتباره واحدا من أشهر كتاب الدراما في المنطقة الألمانية، وقدمت مسرحياته في أنحاء العالم كافة. وسرعان ما أصابت “حمى” دورنمات العالم العربي، فترجم عدد كبير من مسرحياته إلى العربية بتوقيع مصطفى ماهر وأنيس منصور وآخرين، وقدمت أعماله أو اقتبست على خشبات المسارح العربية بنجاح متفاوت.
أما أعمال دورنمات القصصية والروائية فلم تحظ بالشهرة ذاتها، رغم أنها لا تقل قيمة وجمالا عن أعماله الدرامية. بدأ دورنمات حياته كاتبا للمسلسلات الإذاعية البوليسية، وتعلم آنذاك أن يستخدم الإثارة لجذب المستمع، ولكنه برع أيضا في مناقشة قضايا كبرى تتعدى الحدوتة البوليسية المشوقة، وأعتقد أن تأثير هذه الفترة عليه ظل طاغيا، وهو ما نلمسه في عديد من رواياته، مثل روايته المشهورة “الوعد”، وكذلك في القصص الثلاث التي تضمها هذه المجموعة. لاسيما قصة “العطل” التي يتطرق فيها إلى قضية من قضاياه الأثيرة: مسؤولية الفرد عن الأفعال التي لا تطالها يد القانون، وعجز القانون عن تحقيق العدل. وكان مارسيل رايش رانتسيكي، شيخ النقاد الألمان، قد أشاد بثلاثة أعمال لدورنمات واعتبرها الأبرز بين إبداعاته الباقية. وهي مسرحية “زيارة السيدة العجوز”، ومسرحية “علماء الطبيعة”، وقصة “العطل”، التي اعتبرها دورنمات نفسه أفضل أعماله النثرية “غير المسرحية”.
ويضيف: لعل قصتي “النفق” و”العطل” تلقيان ضوءا كاشفا على جانب آخر مهم في أدب دورنمات، ألا وهو إيمانه بالصدفة التي ترتقي عنده إلى مصاف القانون، كما قال دورنمات نفسه في حوار طويل أدلى به إلى القاص والكاتب المسرحي الكبير يوسف إدريس “1927 ـ 1991” وذلك في بيت دورنمات على ضفاف بحيرة نوشاتل في منتصف الثمانينيات، لم يكن غريبا أن يسعى يوسف إدريس ـ الذي حاول ترسيخ مسرح عربي، وكتب مسرحيات مهمة مثل “الفرافير”، و”المهزلة الأرضية”، و”الجنس الثالث” ـ إلى لقاء عميد الدراما في المنطقة الألمانية. وقد وثق إدريس طرفا من حواره الحافل مع دورنمات في كتاب “عزف منفرد” الصادر عام 1987 عن دار الشروق، وفيه يقول دورنمات عن الصدفة “إن العالم الذي نحيا فيه ليس له قدر محتوم يسير إليه وينتهي بنهايته، بل هو يسير بطريق الصدفة العشوائية، لذلك لا يمكن التنبؤ على وجه الدقة بما سيحدث غدا” ويرى دورنمات أن الحتمية ـ حتى التارخية منها ـ قد استبدلت بالاحتمالية.
ويرى أن القصة الأخيرة في المجموعة “قصة “أبوحنيفة وأنان بن داوود” لها قصة غير بعيدة الصلة عن الحوار الذي دار بين إدريس ودورنمات: كتب درونمات هذه القصة قبل زيارته لإسرائيل، هذه الزيارة التي كانت ـ على حد وصفه ـ حدثا مهما في حياته. هناك ألقى عدة محاضرات بمناسبة حصوله على درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة بن جوريون، وفيها عبر عن رؤيته لقضية الشرق الأوسط، تلك الرؤية التي ربما كانت سائدة آنذاك بين مثقفي الغرب. إنه يقارن بين هتلر وعرفات وينزع عن الفلسطينيين صفة “شعب”، ويقول بالحرف الواحد: “بدون إسرائيل كان الفلسطينيون سيبقون أردنيين أو مصريين. إنهم فلسطينيون بفضل إسرائيل فحسب، ولأن عرفات يخوض في السلم حربا، فهو يجبر إسرائيل في السلم على الحرب، ويمنح اليهود المشروعية لشن الهجمات الانتقامية على المخيمات الفلسطينية.
وقد جمع دورنما محاضراته عن إسرائيل في كتاب صدرت طبعته الأولى عام 1978 بعنوان “علاقات ـ تأملات ـ مقال عن إسرائيل” واختتم مقالته الطويلة ـ 240 صفحة ـ بقصة “أبوحنيفة وأنان بن داوود” هذه القصة يمكن اعتبارها تعبيرا عن رؤية دورنمات للصراع العربي الإسرائيلي. وهنا المشكلة، القصة رائعة كقصة رمزية، كأمثولة عن التعايش بين الأديان، لكنها قد تتسم بالسطحية والجهل إذا أريد لها أن تكون إسقاطا على القضية الفلسطينية التي لم تكن عند نشأتها وعبر العقود صراعا على أرض الميعاد أو صراعا بين اليهودية والإسلام.
ويوضح جريس: في حواره مع يوسف إدريس تطرق دورنمات إلى زيارته لإسرائيل وقال له “والعهدة على إدريس أو على مترجمه”: “أنت لم تقرأ كتابي عن إسرائيل، ولو كنت قرأته لعرفت أن أملي خاب تماما في إسرائيل بعد زيارتها.. لقد تغيرت إسرائيل كثيرا، كنت أظن في بادئ الأمر، حين قامت إسرائيل، أنها ستصبح دولة من الأذكياء حملوا معهم الحضارة الأوروبية وسيتولون نشرها في الشرق، ولم أكن أتصور أن يتحول هؤلاء القوم الذين عانوا من الاضطهاد إلى دولة كالمؤسسة العسكرية أو ما يمكن أن نسميه “إيران اليهودية”، دولة عسكرية تقتل وتبيد. ويضيف دورنمات: إنني أعتقد أن هناك مكانا للدولتين الاسرائيلية والفلسطينية، وكان يمكن للدولتين أن تقيما معا تجربة جديدة في بابها، دولة علمانية واحدة فيها العرب وفيها اليهود”
ويعلق جريس: هذه اللغة الواضحة والإدانة القاطعة لسياسة إسرائيل التي تقتل وتبيد لن يجدها القارئ إلا في كتاب يوسف إدريس. هل هو خطأ في الترجمة؟ أم أن الكاتب السويسري غير من قناعاته، أو ادعى ذلك، مجاملة لضيفه المصري، أو ربما اقتناعا بعد مرور نحو عشر سنوات على زيارته لإسرائيل حدثت فيها أشياء كثيرة، منها غزو لبنان؟ وإذا كان قد غير رأيه، أليس غريبا أنه لم يكتب مقالة واحدة يعبر فيها عن خيبة أمله من تلك الدولة التي تقتل وتبيد على حد التعبير المنسوب إليه في كتاب إدريس؟ وهل من الجائز أن يكون ما ورد في حواره مع يوسف إدريس هو رأي دورنمات الحقيقي، لكنه لم يجرؤ على إعلانه إلا أمام الكاتب المصري، ثم عاد بعدها والتحف بالصمت؟
ويشير إلى أن أسئلة كثيرة تثيرها المقارنة بين كتاب دورنمات عن إسرائيل، وما ورد في كتاب يوسف إدريس “عزف منفرد”، ولأن الكاتبين رحلا عن عالمنا منذ قرابة ثلاثة عقود، ولأن الكثير من الدارسين أو الباحثين لم يتطرق إلى هذه النقطة، كما أننا لا نعرف بأي لغة تواصل الأديبان، فلن نستطيع الإجابة عن تلك الأسئلة بشكل قاطع وحاسم.
ويؤكد جريس أن كتاب دورنمات عن إسرائيل يخلو تماما من “خيبة الأمل” في تلك الدولة التي يذكرها إدريس. بل إن من يقرأ كتاب دورنمات يلاحظ أنه متعاطف إلى أقصى حد مع إسرائيل، وأن عقدة الذنب وتانيب الضمير تجاه اليهود لما تعرضوا له من إبادة جماعية في أوروبا كانت الدافع للزيارة والكتابة. ويلاحظ القارئ أيضا أن الكاتب لم يستقر على رأي بالنسبة للصراع العربي الإسرائيلي، وأنه ظل متأرجحا ما بين عقدة الذنب وبين إدانة الظلم السافر الذي يتعرض إليه الفلسطينيون. لذا ظل يحذف ويعيد الصياغة ويضيف إلى أن تضخمت المحاضرات التي ألقاها، وصدرت في كتاب مستقل متوسط الحجم. ونلاحظ أيضا أن دورنمات عبر مرارا عن قناعته بحتمية التعايش السلمي الاسرائيليين والفلسطينيين وأنهى إحدى كلماته بالقول “إن على الدولة اليهودية ألا تنسى ما نسيه الجميع، الشقيق الفلسطيني”.
ويلفت إلى أن التناقض بين آراء دورنمات الواردة في كتاب يوسف إدريس بخصوص إسرائيل، وآرائه في كتابه سالف الذكر، يثير تساؤلات أخرى: كيف تصلنا أقوال كتاب العالم عبر الترجمة “الوسيطة، ربما؟”، وما مدى صحة تصوراتنا عن اللقاءات التي تتم بين الكتاب العرب وأدباء العالم؟ هل لنا أن نثق فيما يكتبه هذا الكاتب أو ذاك من انطباعات عن لقائه بذلك الشاعر أو بتلك الكاتبة؟ أم أن سوء الفهم “حتى وإن كان حسن النية” هو مصير تلك اللقاءات، طالما أنها تحدث بترجمة مشكوك في صحتها؟
ويتذكر جريس رحلة فريدريش دورنمات إلى مصر في مطلع الثمانينيات، ويقول: أتذكر الندوة التي عقدت معه في معهد جوته بالقاهرة، وكيف تحدث بلهجة سويسرية ثقيلة لا علاقة لها بالألمانية الفصيحة التي درسناها، نحن طلاب قسم اللغة الألمانية في كلية الألسن، حتى إن كثيرين خرجوا من القاعة بعد بداية اللقاء بقليل. وأتذكر كذلك المقابلة التي أذاعها التليفزيون المصري بين الكاتب السويسري الكبير والإعلامية سميحة غالب، حيث دار الحوار بينهما عبر ترجمة قام بها مترجم من هيئة الاستعلامات المصرية كان يجلس معهما في الأستوديو. كانت الترجمة بالغة السوء، مشوهة، ناقصة، ومليئة بالأخطاء التي اكتشفناها، نحن الذين كنا مازلنا في بداية عهدنا بلغة جوته. آنذاك تعجبت من أن دورنمات لم ينهض ويغادر الأستوديو، غضبا واحتجاجا على سوء الترجمة واستحالة التواصل. كانت فضيحة بكل المقاييس، ظلت مثار تهكمنا وسخريتنا في الكلية طوال شهور. وعندما قرأت كتاب يوسف إدريس تمنيت ألا يكون المترجم ذاته الذي رافق الكاتب المصري الكبير في رحلته إلى سويسرا.
ميدل إيست أونلاين