بول إيلوار شاعر الحب والسلام

 

تحفل مسيرة الشاعر الفرنسي بول إيلوار بالثراء على المستوى الفني والفكري والإنساني، فهو شاعر الحب والسلام والنضال من أجل الحرية العمل الحزبي السري، شاعر الدادية والسيريالية والمبادئ السياسية، حتى ليقول عنه الناقد ريمون جان “انتقل مركز الثقل في شعر إيلوار اليوم. لم تعد المقاومة ـ أو الفترة التي تلتها ـ اللحظة الكبرى في تاريخ الشعر، وأصبحت السيريالية ممثلة لتلك اللحظة، وإذا سلمنا أن إيلوار شاعر سيريالي كبير، فإن الذين يوقفون مؤلفاته عند مرحلة معينة من تطورها يفرغونها من اتجاهها اللاحق. ويؤكد البعض على الفترة الدادية في حياة إيلوار قائلين إنها يجب أن تكتشف، بينما يقول البعض الآخر إن إيلوار شاعر الحب أولا وقبل كل شيء خاصة في كتاباته الأخيرة، ويقف فريق ثالث عند كل ما يتعلق بالنظر والرؤية والصور.. إلخ“.

قدمت د.سامية أسعد لمختارات إيلوار الشعرية الصادرة أخيرا عن الهئية العامة لقصور الثقافة، بقراءة مهمة ألمت فيها تجليات سيرته والانعكاسات الفنية والفكرية والإنسانية التي لعبت دورا مهما في تشكيلها، انطلاقا من أول حدث مهم في حياته حيث بصق دما من فيه، ليقطع دراسته ويذهب إلى مصحة وهو في عمر السادسة عشرة ويتوقف عن الدراسة، ليستعيض عنها بالثقافة الشخصية العميقة، فيقرأ الكتاب المحدثين والمعاصرين له أكثر من الكتاب الكلاسيكيين، وهكذا اكتشف نيرفال وبودلير ولوتريامون والرومانسيين والإنجليز. ثم اكتشفه للحب مع زوجته الأولى جالا ثم الثانية نوش وأخيرا دومينيك، لأن الحب في نظره “ذات الاكتشاف دائما”. مرورا بمشاركته في الحرب العالمية الأولى ومقاومته للاحتلال الفاشي في الحرب العالمية الثانية، وأخيرا رحلاته إلى البلدان الأوروبية التي قاست ويلات الحرب.

رأت د.سامية أن حياة إيلوار اختلطت لفترة ما بتاريخ الحركة السيريالية، حيث كان ممثلا لذلك الجيل الذي رأى في العاصفة التي اجتاحت أوروبا عامة وفرنسا خاصة مدعاة لرفض كل القيم الموروثة، رأى أنه لا بد في البداية من هدم كل شيء وإعادة النظر في كل شيء. وطالب بلغة جديدة، واشترك في تحرير أول نص سيريالي جماعي “جثة”. والمقصود بالجثة هنا الكاتب أناتول فرانس. وانضم مع كل من أراجون وبريتون إلى الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1926. وعبرت عن هذه الفترة من حياته أعمال مهمة تدل على نضج فني وفكري ملموس نذكر من بينها “عاصفة الألم” 1926 و”الحب الشعر” 1929.

وأشارت إلى أن إيلوار اشترك في صياغة التاريخ المعقد للعلاقة بين الحركة السيريالية والحزب الشيوعي، وبالتالي تأثر بتطور تلك العلاقة والتقلبات التي تعرضت لها والمتناقضات التي اتسمت بها. ظل يساير السيرالية طوال الفترة التي وضعت نفسها فيها خدمة للثورة، وحتى بعد أن قطع صلته بالحزب الشيوعي، ظل شاعرا سيراليا ثوريا مخلصا.

وقالت د.سامية أن إيلوار عرف على عكس أي من زملائه خلال الثلاثينات كيف يوفق بين إخلاصه لتعاليم بريتون وإخلاصه للمعركة التي اختار أن يخوضها ضد كافة ألوان القهر والظلم، لكن كان لا بد للقطيعة من أن تأتي. ولا شك أن ميول إيلوار السياسية، وتطور موقفه الشعري ولغته التي أصبحت أكثر ميلا إلى الوضوح وأسهل في وصولها للناس ـ كانوا من بين الأسباب التي أدت إلى هذه القطيعة. وعندما وعي إيلوار طابع كتاباته المبتكر داخل إطار السريالية، جمع النصوص الجمالية التي كتبها عن الشعر والرسم في ديوان مهم أسماه “ما يقدم للرؤية” 1939، وواصل كتابة القصائد العاطفية التي تعكس سعادته مع زوجته الثانية “نوش”.

وأضافت “عندئذ بدأ نشاطه النضالي الذي لا ينفصل عن نشاطه الشاعري، فكتب دواوين سريالية أخرى “الحياة المباشرة” و”الوردة العامة” 1934 و”العيون الخصبة” 1936، واشترك في المناقشات السياسية والأدبية والفكرية التي ثارت في تلك الفترة. في الوقت الذي استمرت فيه مغامراته الداخلية الحسية في صمت، واستمرت فيه اكتشافاته في المجالات كافة ومجال الحب خاصة.

وتذكر د.سامية أنه عندما جاءت الحرب العالمية الثانية وجاء الاحتلال، رد الشاعر بنداء إلى الأخوة والأمل والثورة عند الحاجة. وانتشرت قصيدة “حرية” في كافة أرجاء العالم الحر جاعلة منه شاعرا شعبيا أشهر من ذلك الذي اشتهر بدواوينه السريالية. وهذه القصيدة أشهر مثال للأبيات التي تقول الكثير بكلمات قليلة، وهي تنتظم وكأنها قصيدة حب تمجد امرأة يذكرها الشاعر ولا ينطق بها بل يكتبها فقط. وفيما عدا الايقاع المتميز والبناء القائم على التكرار لا تتحدث هذه القصيدة إلا عن أبسط الأشياء المكونة للعالم. ووجّه إيلوار جل نشاطه للمقاومة. واشترك في تأسيس اللجنة الوطنية للكتاب في المنطقة المحتلة. وكان عليه أن يأخذ الحذر، وأن يتجنب مسكنه ما أمكنه ذلك. واضطر إلى أن يختبئ لفترة في مستشفى للعلاج النفسي وكان يوقع قصائده المقاومة بأسماء مستعارة وفي عام 1944 جمعها تحت عنوان “في اللقاء الألماني”، أنشودة جنائزية عظيمة، أنشودة الذين أعدموا والرهائن والشهداء وكل من سال دمه لكي يظل الأمل حيا.

وتابعت: ازداد التزام الشاعر وازداد تبصرا ودخل إيلوار تلك الفترة التي أصبح فيها شعره سياسيا، وطابقت فيها أفعاله مبادئه السياسية، فكتب “القصائد السياسية” عام 1948، وأصبح سفيرا متنقلا للسلام ورسولا لكتابة الشعر النضالي من أجل سعادة الإنسان والحرية والديمقراطية، خلال الرحلات العديدة التي قام بها في البلاد الأوروبية وغيرها التي قاست من ويلات الحرب وأعلن الانتصار على الفاشية فيها عن بدء عهد جديد.

وأوضحت د.سامية أنه أثناء الحرب العالمية الثانية ذهب إيلوار إلى أبعد حدود الالتزام، في الوقت الذي ظل فيه شاعرا بكل ما في الكلمة من معان، وقيل أن شعره ابتعد عن الشعر عندما اتجه إلى السياسة، لكن الحرب على عكس ذلك جعلته يفكر مرة أخرى في معنى الشعر ورسالته، ومنذ 1944 بيّن في “نقد الشعر” كيف أن موت شاعر واحد قد يكفي لإعادة النظر في الشعر كله، ونقده ومناقشة قيمته، وعندما رحلت زوجته الثانية “نوش” أحس بمنتهى العنف أن موت شخص واحد يمكن أن يفرض عليه إعادة النظر في القيم والأفكار المكتسبة الراسخة، وتكمن عظمة إيلوار في أنه قام بعملية إعادة النظر هذه باتجاه الأخوة والانضمام نهائيا إلى جماعة البشر، وحتى آخر حياته عرف كيف يطبق ذلك القانون الذي سماه “قانون البشر القدسي”: أن يظل المرء طاهرا لا يمس.

هكذا تتمثل المراحل الثلاث من حياة إيلوار في النسوة الثلاث اللاتي تركن أثرا في حياته ومواقف ثلاثة اتخذها في هذه المراحل: رغبة السلم التي أحس بها عندما عاش الحرب العالمية الأولى، والتعطش إلى الحرية الذي أحس به عندما كان النازيون يحتلون بلاده، والنضال الشيوعي، وتنقسم قصائد الحب التي كتبها إيلوار إلى ثلاث مجموعات: مجموعة جالا ـ مجموعة نوش ـ مجموعة دومينيك.

 

شعر

تحت السماء الكبيرة المفتوحة يغلق البحر أجنحته

نصوص من المختارات

** الحياة

على كلينا أن نعطي أيدينا

خذي يدي سأقودك بعيدا

عشت عدة مرات تغير وجهي

عند كل يد كل عتبة اجتزتها

كان الربيع العائلي يبعث

محتفظا لنفسه ولي بجليده الزائل

الموت والموعودة

المستقبلة ذات الأصابع الخمس المشدودة المرخية

كان سني يعطيني دائما

أسبابا جديد للعيش بالآخرين

ولأن يكون في قلبي دم قلب آخر

آه أي صبي بصير كنت وما أزال

أمام بياض الفتيات الضعيفات الكفيفات

الأجمل من القمر الأشقر الرقيق الذي أنهكه

ظل سبل الحياة

سبيل الأعشاب والأشجار

والضباب والندى

والجسد الشاب الذي لا يصعد وحده

إلى مكانه فوق الأرض

الريح والبرد يهدهدونه

ويصنع الصيف منه رجلا

أيها الحضور يا فضيلتي المرئية في كل يد

الموت وحده يعني الوحدة

من اللذة إلى الجنون ومن الجنون إلى النور

أبني نفسي كاملا من خلال كافة الكائنات

أيتها الفصول العابرة أنا شاب

وقوي لطول ما حييت

أنا شاب ودمي يرتفع فوق أطلالي

علينا أن نخلط أيدينا

ما من شيء يمكن أن يغوي أبدا

أكثر من تعلق أحدنا بالآخر غابة

ترد الأرض إلى السماء والسماء إلى الليل

الليل الذي يبعد نهارا لا ينتهي.

 

** عفريت ديك ـ رومي

أخفضت أجنحة الحب

وبسطت على جسد مثقل بالدم

أنا أقوى أنا عار من حولي

أتكلم بصوت عال وأرى بوضوح وأشتعل.

 

** جسد مثالي

تحت السماء الكبيرة المفتوحة يغلق البحر أجنحته

على جانبي ابتسامتك ينطلق طريق مني

يا حالمة كلك حسن ونور كلك نار

زيدي من خطورة متعتي أزيلي المدى

عجلي بتذويب حلمي وبصري..

** عزلة

أحس أن الفضاء يزول

وأن الزمان يكبر في كافة الاتجاهات

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى