دمشق ومروحة موسكو الثلاثية
لم تكن التهديدات لتحدث قلقاً لدى دمشق، ومعها طهران، لولا الموقف الروسي الغامض حتى الآن تجاه جملة من الأحداث المتلاحقة خلال الأسابيع الماضية.
هبَّت على دمشق مجموعة من العواصف بعد مجموعة تقارير أطلقتها وكالة الأنباء الفيدرالية الروسية، التي يمتلكها الملياردير الروسي يفغيني بريموجين، المقرّب من مركز صناعة القرار في موسكو، والتي أظهرت وكأن هناك انقلاباً في السياسة الروسية تجاه دمشق.
لَم يكن لهذه العواصف الإعلامية أن تحدث تأثيراً في المزاج العام لولا ترافقها مع مجموعة من الرسائل التي انطلقت من أكثر من جهة غربية، وخصوصاً أنها تزامنت مع عودة الولايات المتحدة لتعزيز قوتها العسكرية في منطقة الجزيرة السورية، واستقطاب المقاتلين الذين درَّبتهم من قبل بعد أن تخلَّت عنهم إثر قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب من سوريا، ثم العودة عنه جزئياً، وإطلاقها المئات من معتقلي تنظيم داعش من سجون الحسكة بحجة هروبهم منها، ومن ثم قيامهم بهجمات عسكرية في منطقة السخنة في البادية السورية، والعودة إلى العراق مع القيام بالهجوم على المنشآت النفطية في ديالا قرب الحدود الإيرانية، إضافة إلى صمت موسكو عن عدم تنفيذ أنقرة الاتفاق الذي يتيح إعادة فتح الطريق الدولي بين حلب واللاذقية M4 الضروري لعودة الدورة الاقتصادية السورية، ابتداءً من عاصمة الاقتصاد السوري حلب.
بالتوازي مع ذلك ظهرت جملة من التهديدات التركية الكبيرة، إثر إدخال أنقرة قوات عسكريّة كبيرة تجاوزت 15 ألف جندي، وأكثر من 5 آلاف آلية عسكرية، بما في ذلك دبابات، وناقلات جند، وأنظمة دفاع جوي متطورة، وأنظمة تشويش إلكترونية، ومدفعية محمولة، وراجمات صواريخ، بما يوحي بأنها تستعد لمعركة كبيرة بعد انجلاء المعركة مع وباء فيروس كورونا.
لم تكن هذه التهديدات لتحدث قلقاً لدى دمشق، ومعها طهران، لولا الموقف الروسي الغامض حتى الآن تجاه جملة من الأحداث المتلاحقة خلال الأسابيع الماضية، وكأن هناك توافقاً روسياً- تركياً بمعزل عن دمشق وطهران، بما يوحي بأن مستقبل سوريا سيتم رسمه بهذا التوافق مع قبول أميركي، وبما يحقق الأهداف والمصالح الأميركية، وهو ما دفع طهران إلى إرسال وزير خارجيتها محمد جواد ظريف إلى دمشق، بعد أن سرّبت مشاهد محاصرة البارجة الأميركية في الخليج لعدة ساعات، مع التصريح الذي سبق وصوله باعتبار تواجد القوات الأجنبية في الخليج مزعزعاً لأمن المنطقة.
ثمة محطة أساسية هنا ينبغي توضيحها قبل الإضاءة على ما يحدث اليوم من تطورات على الساحة السورية.
بعد 74 عاماً من قيام الاتحاد السوڤياتي كبديل من الإمبراطورية القيصرية، تعرض هذا الاتحاد للانهيار والتفكك بشكل متسارع، ليعلن عن بدء مرحلة جديدة لموسكو بتاريخ 26 أيلول/سبتمبر 1991، وتبدأ سياسة جديدة استطاعت من خلالها الولايات المتحدة التغلغل عميقاً ضمن بنية الدولة الروسية، بالاستناد إلى سياسات الرئيس بوريس يلتسين، الذي استطاع خلال 8 أعوام أن يدمر بنية الاقتصاد الروسي بتصفيته القطاع العام، والسماح للقوى الاقتصادية الليبرالية المرتبطة بالشركات العابرة للقارات بالسيطرة على مقدرات روسيا الاقتصادية، ما جعل منها دولة تنتمي إلى العالم الثالث بعد أن كانت قطباً عالمياً.
هذا الأمر أثار حنيناً لدى القوى الروسية المرتبطة بالمرحلة السوڤياتية السابقة لإعادة تشكيل نفسها ضمن تيارات مدنية وعسكرية، بغية استعادة الكرامة الروسية، ومواجهة التهديدات الغربية المستمرة التي تسعى إلى تفكيك الاتحاد الروسي الذي ورث الاتحاد السوڤياتي، وهيّأ الأرضية المناسبة لظهور شخصية فلاديمير بوتين على مسرح السياسة الروسية في العام 2008، كرئيس للوزراء في عهد يلتسين، الذي تنازل له عن السلطة بعد عام من ذلك، لتبدأ مرحلة جديدة عنوانها استعادة المجد الروسي.
هذه الحيثيات اقتضت من بوتين إعادة ضبط التوجّهات الداخلية الروسية قبل العودة إلى المسرح الدولي، فدفعه ذلك إلى السيطرة على التوجهات الاقتصادية الليبرالية المتفلتة وإعادة تنظيمها، بما يخدم الدولة الروسية في عالم أحادي القطب تسيطر عليه الشركات العابرة للقارات، التي بدورها تسيطر على الولايات المتحدة وترسم سياساتها، إضافة إلى إطلاق القوة الكامنة في الجيش الروسي والكنيسة الأرثوذكسية، اللذين يشكلان العمود الفقري للتيار القومي الروسي الذي ينظر إلى إسطنبول باعتبارها القسطنطينية، وهي عاصمة الأرثوذكسية المغتصبة من قبل الأتراك العثمانيين.
هاتان السياستان دفعتا إلى تشكّل تيارين متناقضين متوازنين يحققان المصلحة الروسية العليا، رغم اختلافهما في النظرة تجاه السياسات الداخلية والخارجية، مع ظهور ألكسندر دوغين، وشيوع نظريته الأوراسية التي تتحدث عن عالم جامع للدول والشعوب والأمم ضمن إطار مبني على التعاون في ما بينها بديلاً من سياسات الهيمنة الأميركية، ويمتد من فلاديفستوك على المحيط الهادي إلى لشبونة على المحيط الأطلسي، وتؤدي كل من إيران وتركيا دوراً أساسياً في نجاحه، ما شكّل تياراً ثالثاً في بنية الدولة الروسية له نظرته الخاصة إلى السياسات الخارجية، ويتربع على رأسه الرئيس بوتين، الذي يعتبر من أشد المتبنّين له.
أدركت موسكو وطهران وبكين أن ما يحصل في سوريا من حرب ممنهجة يستهدفهم مباشرة، فدفع ذلك بهم إلى الانخراط في الحرب السورية سياسياً أو عسكرياً أو كليهما، دفاعاً عن أمنهم القومي.
ونتيجة ارتفاع مستوى التهديدات بإسقاط سوريا والسيطرة على موقعها الجيوسياسي المهم جداً، عملت طهران، ومن بعدها موسكو، لمنع إسقاطها واستعادة دمشق سيطرتها على أراضيها التي احتلّتها التنظيمات المتشددة.
اكتسبت الحرب منحى جديداً بعد إسقاط تركيا الطائرة الروسية في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2015، واستثمار الضغط الروسي على تركيا في ما بعد، وأدى ذلك إلى ظهور كتلة الضباط الأوراسيين في الجيش التركي، فوجد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الفرصة المناسبة لتحقيق مشروعه الإخواني المبني على أسس عقائدية، ببدء عملية التمرد على الولايات المتحدة والحلف الأطلسي، واستثمار احتياج روسيا له لاعتبارات متعددة، كي ينفّذ سياساته بعد فشله في الصلاة في الجامع الأموي في دمشق، وخصوصاً أن التيار الليبرالي الروسي العابر للقارات بعلاقاته الاقتصادية، يعتبر أن بالإمكان التعامل مع تركيا واستثمار موقعها الجيوسياسي لنقل الطاقة إلى أوروبا. ويعتبر التيار الأوراسي كلاً من إيران وتركيا ضرورة ملحة له، بعد أن تحققت المصلحة الروسية في سوريا.
ورغم العلاقة الاستراتيجية بين موسكو ودمشق، والتي ظهرت من خلال الدعم السياسي والعسكري الروسي الكبيرين، فإنها تعرضت لعدة مطبات بفعل تباين الرؤى والسياسات للتيارات الثلاثة داخل روسيا حول مستقبل سوريا.
فالتيار الليبرالي الاقتصادي ينظر إلى سوريا من زاويتين أساسيتين، الأولى هي الحصول على أكبر قدر من الاستثمارات، وخصوصاً في قطاعات حوامل الطاقة والنقل والبنية التحتية والفوسفات، مع اعتبار أن هذه المصالح محقّقة، والانتقال إلى تحقيق المصالح الأكبر في تركيا. أما الزاوية الثانية فتتعلق بضرورة تأمين بيئة آمنة لـ”إسرائيل” إقليمياً وداخلياً، وهذا يقتضي فك ارتباط دمشق وطهران، وما يترتب على ذلك من إيقاف دعم القوى المقاومة لها.
من جهته يتعامل التيار الأوراسي مع سوريا من منطلق أن المصالح الروسية الاستراتيجية قد تحققت، والأهمية الأكبر هي لكسب تركيا التي تشكل ركناً أساسياً في مشروعه، وإمكانية تحقيق التوازن بين إيران وتركيا، وهو أمر مستبعد، لأن الطبيعة الإخوانية للرئيس التركي لا تقبل بدور إقليمي فقط، بل إنه يسعى لإعادة تركيا إلى صدارة المشهد الدولي كقوة عظمى، وإعادة السيطرة على كل المناطق التي كانت تعتبر جزءاً أساسياً من الإمبراطورية العثمانية.
يبقى التيار الثالث، وهو التيار القومي المتمثل بالجيش والكنيسة الأرثوذكسية، والذي ينظر إلى تركيا من منطلق العداوة التاريخية بعد أكثر من 12 حرباً بين الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية على مدى القرون الماضية، مع إدراكه المخاطر التركية على الداخل الروسي وفِي آسيا الوسطى، وهو يعتبر سوريا جزءاً من الحلم الروسي، ومن ضرورات الأمن القومي الروسي لكبح جماح تركيا، ويشكل هذا التيار صمام أمان لدمشق في وجه سياسات التيارين السابقين في موسكو.
من هنا، يمكن أن ندرك أن سياسة موسكو تجاه دمشق محكومة بالتوازن الذي يحققه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بين التيارات الثلاثة، رغم تبنيه التيار الأوراسي.
ورغم تناقض المصالح في ما بين هذه التيارات ورؤيتها المتناقضة لسوريا، وخصوصاً بعد الهجوم الإعلامي الكبير المبرمج لكتّاب روس ووكالات غير رسمية، إضافة إلى التوازن الذي يعمل عليه بين تركيا وإيران الحليفة لدمشق، لن ينحى الرئيس الروسي برؤيته لدمشق خارج إطار التوازنات الداخلية والإقليمية، التي تعتبر فيها طهران صمام الأمان الأهم لوحدة سوريا وقرارها المستقل ودورها الإقليمي المغيّب.
الميادين نت