الشراكة الصينية ـــ الإسرائيلية تحت المجهر
هل بدأ تصاعد التوتر الصيني – الأميركي ينعكس سلباً على العلاقات الحيوية بين الصين وإسرائيل التي لم يتردّد الكثيرون في اعتبارها «شراكة استراتيجية»؟ الضغوط الأميركية على إسرائيل للحد من تعاونها في المجالات العسكرية والتكنولوجية مع الصين معروفة، لكنها باتت تشمل اليوم العديد من المجالات الأخرى، والذريعة التي تستند إليها هي الارتباط الوثيق، إن لم يكن العضوي، بين جميع الشركات الكبرى في هذا البلد ومؤسساته الأمنية والعسكرية. هذه الشركات، من منظور أميركي، هي الأداة الرئيسية لتوسّع النفوذ الصيني، الاقتصادي والسياسي والأمني، وتلعب دوراً مركزياً في «التنافس الاستراتيجي» الدائر بينها وبين الولايات المتحدة، الذي يرقى برأي أصحاب هذا المنظور إلى حرب حقيقية لا تستخدم فيها الوسائل العسكرية حتى الآن. الجديد راهناً هو خروج النقاش في إسرائيل حول العلاقات مع الصين إلى العلن والانقسام الظاهر في مواقف مسؤولين عسكريين وأمنيين حول مداها ومستقبلها، وتداعياتها المحتملة على مصالح إسرائيل وشركاتها، والأخطر على متانة تحالفها مع «أمّها الحنون» الفعلية: الولايات المتحدة.
أربعة عقود من النمو المطّرد للعلاقات
تميّزت الصين عن بقية دول المعسكر الاشتراكي في دعمها المبكر والعلني لقضية فلسطين، ومنذ بداية الستينات للمقاومة الفلسطينية المسلّحة، وفي موقفها المعادي لإسرائيل بوصفها مشروعاً استعمارياً استيطانياً. لفتت بعض الدراسات التاريخية في ما بعد إلى أن ذلك لم يمنعها من عقد بعض الصفقات التجارية السرّية معها، والتي لم يكن لها تأثير يذكر على سياستها العامّة حيال المنطقة وقضاياها. العلاقات الجدّية، والسرّية، مع إسرائيل نشأت في الثمانينات، وفي ميدان التعاون العسكري تحديداً، بعد الانعطافة الكبرى التي بادرت إليها بكين خلال السبعينات وقرارها بالتحالف مع واشنطن في مواجهة موسكو وإقامتها لعلاقات دبلوماسية معها سنة 1979.
ليس سرّاً أن بين المحفّزات الأساسية لهذا التحالف، إضافة إلى تلك المتعلّقة بمواجهتها مع الاتحاد السوفياتي، نجد امتلاك التكنولوجيا المتطوّرة واجتذاب الاستثمارات والخبرات لتطوير بناها الصناعية والاقتصادية. «المحفّز التكنولوجي» كان أوّل الاعتبارات التي حكمت أيضاً التطوير المستمرّ لعلاقاتها مع إسرائيل وما زال عاملاً حاسماً في حرصها عليها حتى اللحظة. بالنسبة إلى إسرائيل، مثّلت هذه العلاقات مناسبة تاريخية لتوثيق الصلات مع قوّة صاعدة اقتصادياً وتجارياً وسياسياً، يتيح سوقها فرصاً نادرة أمام شركاتها، وتتيح قدراتها الاستثمارية الهائلة إمكانية للمزيد من تنمية بناها الاقتصادية والصناعية والتكنولوجية.
لم تؤدّ هذه العلاقات إلى امتناع الصين عن تطوير صلاتها الاقتصادية والسياسية الوازنة مع دول معادية لإسرائيل كإيران، أو إلى تغيير موقفها المعلن من القضية الفلسطينية، المدافع عن تسوية على قاعدة القرارات الدولية تسمح بقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية. الصين أصبحت عام 2018 الشريك التجاري الثاني لإسرائيل وثاني أكبر مستثمر أجنبي فيها، وهي تتحكّم، حسب الباحثة في معهد «هرتزليا» كزينيا زفيلتوفا، بـ«15% من اقتصادها». وكان تقرير مهمّ صادر عن «مؤسسة راند»، «الاستثمارات الصينية في تكنولوجيا إسرائيل وبناها التحتية»، ساهمت في إعداده الباحثة الإسرائيلية شيرا أيفرون، وكبيرة المستشارين عن إسرائيل فيها، ذكر أن هذه الاستثمارات تشمل قطاعات كالصناعات الغذائية وصناعات الدواء وكذلك مشاريع البنى التحتية، إلا أنها أضحت تتركّز في قطاعات التكنولوجيا المتطوّرة، كالاتصالات والذكاء الاصطناعي، إذ إن «هذا القطاع اجتذب بين سنتي 2011 و2018 القسم الأعظم من الاستثمارات الصينية (5,7 مليارات دولار) والعدد الأكبر من الشركات (54 شركة صينية). تتولّى شركات صينية أيضاً بناء ومن ثم إدارة 4 من أكبر مشاريع البنى التحتية في إسرائيل: توسيع مرفأ أشدود، وبناء وإدارة قسم جديد من مرفأ حيفا، وشبكة سكّة حديد تل أبيب للقطارات الخفيفة، وحفر نفق الكرمل قرب حيفا. يقول تقرير «راند» إن «11 شركة بين الشركات الصينية العاملة في إسرائيل تثير مخاوفاً على المستوى الأمني بالنسبة إليها وإلى الولايات المتحدة. تنجم هذه المخاوف عن صلاتها الوثيقة بالحكومة أو الجيش الصينيين، وبإمكانية حصولها على معلومات أمنية أو عن الحياة الخاصة للأشخاص وبعملها في بلدان معادية لإسرائيل كإيران».
سجال علني حول مستقبل العلاقة
على الرغم من أن النقاش في الولايات المتحدة وإسرائيل حول علاقات الأخيرة مع الصين مستمرّ منذ عدّة سنوات، فإن المفاوضات بين الحكومة الإسرائيلية وشركة «BGI» الصينية العملاقة، إحدى أكبر الشركات العالمية العاملة في حقل الحمض النووي والجينات، لبناء مختبر ضخم مخصّص للفحوصات المرتبطة بجائحة «كورونا»، حدت بالمعارضين لهذا المشروع إلى الجهر بمواقفهم. تذكر الباحثة زفيلتوفا، المشار إليها أعلاه، في مقال على موقع «المونيتور» بعنوان «هل سيفضي عالم ما بعد كورونا إلى تبريد العلاقات الصينية – الإسرائيلية؟»، أن المفاوضات مع الشركة الصينية شارك فيها مدير الموساد يوسي كوهين، وممثّلون عن وزارات الدفاع والخارجية والصحّة. غير أن مخاوف أبدتها «أوساط في وزارة الدفاع من حصول BGI بفضل الاتفاق على معلومات شخصية عن مواطنين إسرائيليين… أدّت إلى العدول عنه وبداية مفاوضات أخرى مع شريكتها الإسرائيلية Aid Genomics».
ووفقاً للباحثة، فإن هذه القضية عكست «غياب الإجماع بين القادة الإسرائيليين حول التعاون مع شركة صينية عملاقة وسمحت باستشراف الاحتمالات المستقبلية. فالسجال المحتدم والنقد العنيف لتعاون إسرائيل مع الصين حالياً وفي المستقبل أكثر حدّة من أي فترة سابقة ويترافقان مع ضغوط أميركية ومخاوف تتعلّق بالأمن والحياة الشخصية للمواطنين وخشية من تبعية متزايدة للصناعات الصينية». الخوف من قيام الشركات الصينية بالتجسّس على قواعد البيانات في إسرائيل، أو على التكنولوجيا، وغيرها من الحجج التي يتم إيرادها لا يلغي واقع أن تعاظم التعاون مع الصين وما قد يترتّب عليه من مفاعيل بالنسبة إلى التحالف مع الولايات المتحدة يقود إلى نقاش جدّي حول الخيارات الاستراتيجية بين الإسرائيليين.
كان من المتاح في العقود الماضية، أيام اعتماد الصين سياسة «الصعود السلمي» وتجنّب أية مواجهة مع الولايات المتحدة، أن تمضي إسرائيل في تنمية شراكة اقتصادية وتكنولوجية مع الأولى. أمّا اليوم، ومع استعار المواجهة بين واشنطن وبكين وإجماع النخب الأميركية على أنها أخطر تهديد استراتيجي لريادة بلدهم وهيمنتها، ستضطر القيادة الإسرائيلية إلى أن تنحاز إلى «أمّها الحنون»، التي تربطها بها علاقات عضوية، وتوقف تعاونها مع الصين في المجالات التكنولوجية الحسّاسة ذات الاستخدام المزدوج المدني والعسكري. ولا بدّ من الإشارة إلى أن أشدّ أنصار إسرائيل حماسة في الولايات المتحدة، كمايك بومبيو وجون بولتون، يشجّعونها على المضي في هذا الاتجاه.
جائحة «كورونا» قرّبت قسماً معتبراً من العالم إلى الصين لكنها قد تكون إيذاناً بابتعاد إسرائيل عنها.
صحيفة الأخبار اللبنانية