انتفاضة العرب ضد العثمانيين.. وعي الضرورة وضرورة الوعي
.. ولأن “الأذن تعشق قبل العين أحيانا” كما قال الشاعر الكفيف بشار بن برد، فلا ضرر ولا عيب في أن نستخدم مفتاح الموسيقى لقراءة فيلم ” لورنس العرب”، ونتلمس صحراء التيه والأسئلة التي رافقت سيرة الضابط الانكليزي توماس إدوارد لورنس (1888 ـ 1935)، الذي يكلف بمهمة من قبل السلطات البريطانية بمعاونة العرب بقيادة الشريف الحسين بن علي، وابنه الأمير فيصل آنذاك، في حربهم لتحرير جزيرة العرب من حكم الخلافة العثمانية سنة 1916.
عصا الموسيقي الفرنسي موريس جار (1924 ـ 2009) الملقب بذي الألف أذن، تقودنا ـ كما عصا الكفيف ـ بين كل خطوة خطاها صاحب كتاب ” أعمدة الحكمة السبعة” الذي من خلاله جاء هذا الفيلم كأروع ما يمكن أن يُقتفى من بعده أثر.
يكاد المرء أن يقتنع بأن موسيقى جار، في “لورنس العرب” قد تكفلت ـ وحدها ـ بالرسالة، وأقنعت ” من به صمم”. كان كل ذلك، لولا فصاحة كاميرا المخرج البريطاني ديفيد لين (1908 ـ 1991) الذي أنتجت له الفيلم ـ وبسخاء كبير ـ شركة “سام سبيجل”، وبلاغة الأداء لكل من هبيتر أوتول، الذي لعب دور لورنس، وعمر الشريف بدور الشريف علي، وأنتوني كوين بدور عودة أبو تايه، وأليك غينيس بدور الأمير فيصل.. بالإضافة إلى سحر منطقة “الطبيق” في الأردن التي جعلت الفيلم يحصل على جائزة أوسكار للتصوير.
الموسيقي العبقري موريس جار، أريد له أن يكون وحده، في هذه الرائعة السينمائية التي تروي حربا ليست ككل الحروب، ذلك أنها ارتبطت برجل يكاد أن يكون وحده في هذه الملحمة التي تفصل كيانا عربيا ثائرا وحالما عن آخر تركي غاشم ومستبد.. ولكن بمساعدة انكليزي ثالث، صار فيما بعد يُشك في صدق نواياه.
هي طريق وعرة، أُوكلت موسيقيا في الفيلم، إلى موريس جار، وجعلته يتربع على عرش موسيقى الأفلام، ويتهافت عليه فيما بعد، كبار المخرجين مثل ألفريد هتشكوك وجون هستون وإيليا كازان وفرانكو زيفريللي ومصطفى العقاد.
تناسى كل هؤلاء أن منتج “لورنس العرب” قد كلفه وحده، في فترة وجيزة ودون معيّة أحد، بتأليف موسيقى هذا العمل الذي أعلنه النقاد كواحد من أفضل 10 أفلام في تاريخ السينما الأميركية بالقرن العشرين.. ألا يشبه ذلك نفس التكليف الذي أحيط بعهدة الملازم الانكليزي توماس إدوارد لورنس، في إعلان الحرب على السلطنة العثمانية، والإجهاز على “الرجل المريض”؟
لنمض بعيدا في هذه المقاربة التي كنا قد أردناها مدخلا لقراءة فيلم “لورنس العرب” بين مؤلف موسيقي من بلاد “بيكو” وقائد عسكري من بلاد “سايكس” أي الدبلوماسيان الفرنسي والانكليزي اللذان قسما المنطقة العربية بعد ثورة 1916.. أليس في الأمر بعض التشابه في المصائر، وإن اختلفت السرائر بين فنان وسياسي؟ لقد قال موريس جار، في حوار أجرته معه صحيفة لوكوتيديان الفرنسية سنة 1994، وذلك بعد حصوله على “نجمة الخلود والشهرة” على رصيف شارع هوليود التي ترمز لعبقريته “النجوم للمجلات، أما أنا فلست ممثلا بل مؤلف. المؤلفون ليسوا نجوما أبدا، والنجمة هي أسطورة. لقد كنت محظوظا جدا لتمكني من العمل مع مخرجين كبار”.
أمّا الانكليزي توماس ادوارد لورانس، المؤلف الذي تلوثت كتاباته بالسياسة والمكر الاستخباراتي، فقد غادر الحياة عن سن تربو عن 47عاما وفي حادث دراجة يشك في أمره. حضر جنازته شخصيات سياسية وعسكرية مهمة، وضع له تمثال نصفي أمام كاتدرائية القديس بول في لندن.. ولا ندري إن كان يجدر الاحتفاء به كمفكّر مغامر أم كمخبر متآمر.
الاثنان يلتقيان عند كلمة تختصر المغامرتين، وقالها موريس جار، نيابة عن لورنس العرب: في الواقع أعطتني الحياة فرصتين؛ الأولى فرصة النجاة من الموت، والثانية فرصة النجاة من غياهب النسيان.
باب الشرق