أفول نجم الأندلس والسقوط المدوي
هذا كتاب قديم جديد، ألفه ستانلي لين بول وترجمه إلى العربية علي الجارم، وقد تجدد صدوره مؤخرًا في سلسلة يشرف عليها الدكتور أيمن فؤاد سيد، تحمل اسم “كلاسيكيات التاريخ”، وهي إحدى سلاسل “الدار المصرية اللبنانية” بالقاهرة. وإلى جانب – مؤلف الكتاب ومترجمه – يحمل الغلاف اسمًا ثالثا هو الدكتور عبدالباقي السيد عبدالهادي، محققًا له، ثم المراجع الدكتور أيمن فؤاد سيد ذاته والكتاب يتناول تاريخ المسلمين في الأندلس، منذ وطأتها أقدامهم إلى أن خرجوا منها؛ أي أنه يبدأ من الحديث عن آخر أيام القوط، وينتهي بسقوط غرناطة، وظهور الصليب.
وبين التاريخين تكون أحداث هذه الحضارة العظيمة التي كان مسرحها هذه البلاد. وعلى الرغم من أنه كتاب في التاريخ، إلا أنه يهتم بالجانب الحضاري في تلك المرحلة المهمة من تاريخ الأندلس، بل وتاريخ دولة الإسلام أيضًا.
أما مؤلف الكتاب ستانلي لين بول فيعترف محقق الكتاب ومراجعه بأنه يعد من المستشرقين الإنجليز الموضوعيين المنصفين، وليس من المستشرقين الكارهين للحضارة العربية الإسلامية والجنس السامي بشكل عام.
ومع ذلك يقول مقدم الكتاب: “ولا يعني وصفنا للمستشرق ستانلي لين بول بالإنصاف، أنه كان معصومًا في كتابته، فلا شك أن الذاتية والبيئة التي ينشأ فيها المؤرخ لها من التأثير الكثير على صاحبها، ومن ثمة فرغم إنصاف الرجل وحرصه في غير ما موضع من كتابه على أن يدافع عن العرب والمسلمين وحضارتهم الزاهية، إلا أنه سار في ركاب فئة المستشرقين التي وسمت المسلمين بالمحمديين، وهو ما نلاحظه في كتابين من كتبه؛ وسم أولهما بـ (أسرات المحمديين)، وثانيهما بـ (الهند في القرون الوسطى تحت حكم المحمديين)، وهذا الوصف لا يمكن قبوله بشأن أتباع النبي محمد، لأن الله وصف أتباعه بـ (المسلمين) في كتابه الكريم”.
سبب خروج المسلمين من الأندلس هو عكس سبب دخولهم إليها، وهذا أمر طبيعي فقد تكف الحضارة عن النمو والإبداع والتطور والتجدد الفكري، فدخلت في مرحلة أفول نجمها الذي انتهى بالسقوط المدوي
ومع ذلك يقول صاحب المقدمة إن المؤلف اعتمد على المنهج الموضوعي في تأليف كتابه شأنه في ذلك شأن دوزي في كتابه “المسلمون في الأندلس”.
ويبدأ الكتاب بمقدمة أخرى لمترجمه علي الجارم، الذي ولد سنة 1881 في مدينة رشيد وتعلم حتى تخرج من مدرسة دار العلوم، وسافر إلى انجلترا لإكمال دراسته في بعثة دراسية عام 1908، درس خلالها أصول التربية وعاد إلى مصر بعد أربعة أعوام في سنة 1912، ليتدرج في السلك الوظيفي حتى وصل إلى وكيل “دار العلوم” العليا سنة 1924، ثم عُين عضوًا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1933، ونال بعض الأوسمة ومنها: “وسام الأرز” من لبنان، و”وسام النيل” من مصر، و”وسام الرافدين” من العراق.
ويستهل المؤلف كتابه بذكر أحوال الأندلس قبل الفتح العربي وأثنائه، وبعده.
يقول: “إن قصة الأندلس عجيبة حقًا، مثيرة للنفس حقًا، وفيها من أحاديث البطولة والإقدام؛ فيها جرأة طارق، وإقدام عبدالرحمن الداخل، وعزيمة الناصر، وعبقرية المنصور، وإلى جانب كل هذا فيها أمثلة رائعة للصبر حين البأس، وللجلد على أشد المكروه، وللتمسك بالعقيدة.
وقصة الأندلس ككل القصص تستهوي النفوس وتسحر العيون، فيها الشجاعة وفيها الجبن. فيها حب الموت، وفيها عشق الحياة، وفيها الإغراق والشره في حطام الدنيا الزائل، وبيع النفوس للشهوات في أقبح ما يصوره المصورون. فكأن الأندلس هي قصة الإنسان منذ وجد على هذه الأرض إلى يومنا هذا.
ويتحدث المؤلف عن منهجه في الكتاب، فيقول إنه جامع بين التحقيق العلمي، وربط الحوادث بعضها ببعض. لقد ذكرت جل كتب التاريخ كيف فُتحت الأندلس، وكم كان عدد الفاتحين، وكيف سقطت بهذه السهولة واليسر. ويرجع المؤلف هذا إلى طبيعة العرب الذين عاصروا الحضارات القديمة من: روم وفرس، وقبل الروم والفرس، في زمن الإسكندر الأكبر الذي دانت له الأمم التي مر عليها بجيوشه إلا العرب، فقد تحصنوا بصحرائهم، وانكمشوا فيها حتى عبر الإسكندر إلى بلادهم ولم يحتلها لأن المنية عاجلته.
جاورت العرب إمبراطوريات كبرى، لم يذوبوا فيها، لا في الأكاسرة الفرس، ولا في القياصرة الروم. فكيف حدث التحول الكبير في حياة العرب؟ وكيف خرجوا من صحرائهم إلى العالم الكبير في طليعة القرن السابع الميلادي، ينشرون الإسلام، ويبنون حضارتهم؟
وعن هذا السؤال يجيب مؤلف الكتاب بقوله: “نشأ هذا التطور من عزيمة رجل واحد هو محمد بن عبدالله، الذي لقيت دعوته آذانًا واعية، وعظم تأثيرها في قلوب العرب“.
كان العرب قبل محمد أشتاتًا من شعوب وقبائل متطاحنة فخضعوا جميعًا لـ “محمد” ودينه. وبعد وفاته، اكتسحت جيوشهم بلاد الفرس، ومصر، وشمال أفريقيا، حتى بلغوا المكان المعروف بـ” أعمدة هرقل”، وأعمدة هرقل هو الاسم الذي أطلقه الرومان على “مضيق جبل طارق” الذي يوصل بين البحر الأبيض والمحيط الأطلسي في جنوب إسبانيا.
ولم يكن عند موسى بن نصير، والي شمال أفريقيا، نية دخول هذه البلاد، لولا أن الخلاف بين “لو زريق”، ملك إسبانيا، وحاكم “سبتة”. ويرجع سبب الخلاف إلى ذلك الانهيار الأخلاقي الذي يصيب الحضارات حينما تشيخ. وكانت إسبانيا تحت حكم القوط قبل مائتي عام فقط، ولكنها فُتنت بما عرف عن المسلمين من نزاهة وعدالة فآثرت أن يكون تحت حكم المسلمين على أن يكونوا تحت حكم أبناء ملتهم.
ويقول أحد المؤرخين – وهو يحاول تمحيص الأسباب التي أدت إلى تغلب المسلمين على المسيحيين – “إن الملك “ويتزا” عَلَّمَ إسبانيا كيف تقترف الآثام، ولكن إسبانيا كانت قد تعلمت ذلك على أحسن وجوه العلم قبله بزمن بعيد. أي إن إسبانيا حينما اقترب المسلمون من حدودها كانت تتكون من طبقة فاسدة مفسدة من الأغنياء قسمت الأرض بينها ليزرعها العبيد، ثم طبقة من سكان المدن لم يبق لها الظلم والعسف رطبًا ولا يابسًا تلك هي الأحوال التي ساعدت على سقوط إسبانيا، ودخول المسلمين برغم صغر عدد جيشهم الذي لم يزد على بضع مئات. ولا ننسى فكرة الانتقام التي كانت تراود حكام تلك البلاد لما ارتكبوا من مفاسد حتى مع أقرب الناس إليهمهذه هي الأحوال التي سمحت لموسى بن نصير أن يستأذن الخليفة في دخول تلك البلاد، وأن يأخذ الخليفة الوعود الشديدة عليه بألا يُهلك الجيش في حرب بحرية، إذ كان العرب قوة برية، فأفهمه أنه ليس بحرًا بالمعنى المفهوم، ولكنه زقاق ضيق.
المهم أن المسلمين دخلوا إسبانيا سنة 92 هجرية الموافقة لسنة 711 ميلادية، وخرجوا منها سنة 1452 ميلادية. أي أنهم عاشوا في الأندلس ألف عام يحكمون وينشئون الحضارة والأدب والعلم والفقه والفلسفة إلى جانب الشعر، بحيث صارت الأندلس منارة في المعارف والعلوم تضاهي المنارة الأم في الشرق في بغداد، إن لم تتفوق عليها.
فإذا كان هذا سبب دخولهم، فكيف خرجوا من الأندلس؟
الحقيقة أن سبب خروجهم من الأندلس هو عكس سبب دخولهم إليها، وهذا أمر طبيعي فقد تكف الحضارة عن النمو والإبداع والتطور والتجدد الفكري، فدخلت في مرحلة أفول نجمها الذي انتهى بالسقوط المدوي.
ميدل إيست أون لاين