حمدي العطار: الروائي سعد العبيدي يقدم: شخصيات عن روايات الضحايا في رواية (تيه الجنوب)
كانت روايات الضحايا الانظمة السياسية مصطلح يطلق على قتل واعتقال رفاق الامس اعداء اليوم، ولعل اكثر واول من استخدم هذا الاسلوب عبر التاريخ هم حكام الامبراطوريات عبر التاريخ لتصل هذه الخصلة الى الاحزاب العقائدية (الشيوعية) في زمن ستالين خاصة، والاحزاب القومية في زمن (عبد الناصر وصدام حسين) على الاخص، وقد كتب الروائيون روايات عن اساليب التعذيب واذلال التي تمارس على المعتقلين في هذه السجون بتهمة الخيانة او التآمر، وتدخل روايات مثل (الحيونة الانسانية) التي تحدثت عن التعذيب لأبناء الثورة الجزائرية وقد استمد سارتر فكرة هذه الرواية ليكتب رواية بعنوان (معذبو الارض) ، كما قدم رواية (شرف) الروائي المصري (صنع الله ابرهيم) جعل البطل يقتل (جون الاجنبي) لأنه اراد ان يعتدي على شرفه ليدخل السجن ليرى صنوف اهانة الشرف والكرامة وصعوبة المحافظة على النفس وطهارتها! ولا ننسى رواية (شرق المتوسط) للروائي عبد الرحمن منيف، وكذلك رواية (تلك العتمة الباهرة) للروائي المغربي “الطاهر بنجليون” وتناولت شهادة السجين (عزيز بنتين) ومحاولة انقلاب على ملك الغرب (الحسن الثاني) والذي ظل في المعتقل 18 سنة، (مذكرات في سجن النساء) للروائية “نوال السعداوي” تكلمت عن تجربتها عندما كانت في السجن لمعارضتها حكم السادات الذي اعتبر المثقف المعارض لنظام الحكم بمستوى الخائن والعميل !الكاتب السوري “محمد الماغوط” كان يقول السجين لا يموت من الحرمان او الحر والبرد او الضرب والامراض والحشرات بل (يموت من الانتظار) ، اما الروائي “فواز حداد “فقد قدم رواية عام 2014 بعنوان (ما نعتقد أنه حقائق)، والروائي (مصطفى خليفة) قدم رواية بعنوان (القوقعة في العراق قدمت رواية الضحايا من قبل الروائي “أنطوان سنان” بعناون (أعجام))
قدم الروائي “سعد العييدي” شخصيات روائية من الواقع السياسي حينما كتب عن ضحايا قاعة الخلد في روايته (حفل رئاسي) وفي رواية (تيه الجنوب) يختار شخصية (ابو شيماء) اللواء الركن (شامل حسين) الذي لم يحكم عليه بلاعدام ولم يمت في سجن ابو غريب وهو من سجناء قاعة الخلد الذين القدر جعلهم يشملهم عفو الرئيس صدام حسين بعد سنوات من سجنه ، يقدمه في هذه الرواية ليمثل اتجاهين في السرد، الاتجاه الاول يمثل (ذكرياته في سجن ابو غريب) وما تعرض له مع رفاقه من التعذيب والمذلة والقهر على الرغم من ان البطل لا يريد ان يتذكر (هو سد مناف التذكر التي تستدعي الماضي) لكن ما سوف يواجهه في الطريق يجعله يستذكر ويحدث الاخرين بما جرى له في سجن ابو غريب لأنه كان يريد الخلاص من تهمة (اعوان النظام) ، والاتجاه الثاني يمثل توقعات الحاضر التي جاء مع الانتفاضة الشعبية والتي يطلق عليها البعض الانتفاضة الشعبانية عام 1991 التي جاءت بعد الانسحاب المخزي من الكويت وانهيار الجيش وانطلاق الانتفاضة الشعبية في 14 محافظة من الجنوب والشمال! ويأتي عنوان الرواية بما يشبه مفهوم الضياع وهو (التيه) اما الجنوب هو المنطقة الجغرافية التي يختارها ابو شيماء للهروب مع عائلته الى ايران ومنها يخطط للوصول الى سوريا ” سأل الحاج عاشور – لم أخترت إيران جهة للهروب؟\ – حدودها الأقرب إلينا، وحكومتها ما زالت في عداء مع الرئيس، وعلى هذا فأن الهاربين إليها سيكونون في مأمن من الاسئلة والتحقيق الذي تثيره الشكوك في مثل هكذا حالات”ص36
استخدم الروائي منهج التداعيات والكلام مع النفس لتوضيح الموقف والافكار لشخصياته الرئيسة، فنرى ابو شيماء يكلم نفسه “حرب خليجية يقولون عنها الثانية ويقول عنها الرئيس أم المعارك..يعطون لمعاركهم سيماء ذات وقع على السامعين. وإن كان بعضها خاسرا. إنهم لا يعترفون بالخسارة، كل عمل يقومون به مضمون ربحه، يقوي الأمة، يعيد بناءها من جديد، شعارات يعتقدون أن السامع قد صدقها”ص26.
الحيطة والحذر هي عنوان رحلة ابو شيماء وعائلته من بغداد الى ايران اراد ان يختار اولا اقرب مدينة للعبور الى ايران فكان لو وقفة في الكوت ، ودراسة مخطط العبور من خلال الذهاب الى مدينة (بدرة)
وهنا تظهر شخصية الشيخ (شعلان) وابنه (مساري) لدراسة امكانية عبور ابو شيماء وعائلته الى ايران، لكن ما حصل عليه مساري من معلومات لا تشجع ان تكون نقطة العبور من بدرة، لذلك يكون الاختيار ان يكون العبور من منفذ البصرة “-الخيار الآخر هو البصرة، لكن مشكلة تبرز بالمواجهة، تتعلق بكيفية النفاذ اليها.. مدينة يتوزع من حولها العسكر.. سيطرات متعددة على الطريق..اكد شيخ شعلان عن اهمية اللبس العربي ووضع العقال فوق الرأس كجواز عبور مضمون – انه هيبة، وإن الجنود القائمين بمهام التفتيش، ينحدرون غالبا من اصول ريفية تحترم بل تقدس العقال..واضاف اقتراحا بارتداء الحجاب للبنات، عامل حشمة ووقار..واوصى بقراءة سورة الواقعة لضمان العبور مقترحا قراءته قبل الوصول الى نقطة السيطرة بعدة امتار..لكن ابو شيماء قال:انا لا احفظ من القرآن سوى سورتي الفاتحة، وقل هو الله أحد”ص54 وفي كل مشهد يستذكر ابو شيماء حالة مشابهة تخص تهمة المشاركة بمؤامرة محمد عايش كما كانوا يسمونها”امام المحكمة توقعنا الموت ..وللتخلص من الضغط قمت بقراءة سورة الفاتحة ، وعند الانتهاء من قراءتها، كررتها مرة ثانية وثالثة .. الى ان نطق رئيس المحكمة بالحكم سبع سنوات سجن …وبعد ان كنا في سجن ابو غريب وممارسة التعذيب علينا (لم نعد نخاف الموت، بل جميعنا تمناه في بعض الاوقات، لأن ألم التعذيب كان اكبر من خوف يتعلق بحياة أخرى) يوفر لهم النقيب محمد الذي هرب من الكويت متوجه مع بعض من جنوده الى معسكر التاجي، هوية نائب ضابط مع نموذج اجازة تاريخها قبل الحرب تخص ابو شيماء فإصبحت لديه هويتين ، هوية الخبير في وزارة الكهرباء الوظيفة التي تم تنسيبه اليها بعد خروجه بعفو من الرئيس صدام بدلا من لواء في الجيش! وهوية نائب الضابط، السيطرات التي تخص الجيش والامن يخرج لهم هوية الخبير ويكذب عليهم بإن الوزير وبأمر من صدام بعثه في مهمة اصلاح الكهرباء التي عطلت بسبب القصف الامريكي، سيطرات الثوار يخرج لهم هوية نائب الضابط المجاز! لكنه بعد أن يعبر سيطرة الجيش واقناع الضباط بمهمته الرسمية كخبير في الكهرباء وهو متوجه الى سوق الشيوخ بالناصرية تمسكه سيطرة الثوار وبدلا من تقديم هويته المزورة العسكرية، اخرج هوية الخبير في وزارة الكهرباء “ما شاء الله خبراء التصنيع، اعوان حسين كامل في ساحتنا، إنها من علامات الساعة” وتعقد جلسة في الحسينية تشبه المحاكمة يحضرها (السيد قاسم والحاج محمد والسيد ابو رغيف) ومجموعة كبيرة من المتفرجين الذين يصيحون دعونا نقتل هذا البعثي ابن عم حسين كامل ،واخذ ابو شيماء يقص عليهم حكايته مع صدام وسنين السجن والتعذيب ونيته بالهروب الى خارج العراق يغيرون الصفة الى (الجاسوس) ولا ينقذه الا مجيء (العقيد منعم القطان) كأحد قيادات الثورة في سوق الشيوخ، وعندما ينظر اليه – منو ابو شيماء؟ انك بين اهلك وفي ديرتك.- انه اللواء ابو شيماء معارض لرئيس الذي سجنه ظلما وبهتانا، هو من أشراف القوم ومن كبار الضباط الوطنيين المعادين للنظام”105
حاول سعد العبيدي ان يجعل المتلقي يتنفس مع ابو شيماء رائحة السجون (ابو غريب) وغبار الانتفاضة الشعبية عام 1991، تحولات مفاجأة ، وتوظيف ذكي للحوار، وتبدو خبرة الروائي وكأنه مشارك بالاحدث وليس ناظر اليها من الخارج.
ازداد الاهتمام بالصعوبات التي تواجه المواطن العراقي وحتى العربي لكي يكر بإن يهاجر ويترك الوطن، حتى لو كان مثل هكذا قرارات لا تتوفر فيها السلامة وضمان الوصول وفيها عدم القدرة على التكيف او الراحة النفسية بسبب الغربة واختلاف اللغة والتقاليد والعادات ، البعض يركب بقوارب الموت التي طالما تعرضت الى الغرق والموت واخرون يسلكون طرق اخرى غير مؤمنة ومرعبة، بطل رواية (تيه الجنوب) شامل حسين، اللواء العسكري المتقاعد، والسفير السابق في المانيا والملحق العسكري الأسبق في فرنسا، صديق ورفيق صدام حسين في المعتقل، في فترة الستينيات ، يتعرض الى ما يسمى (ارتياب الرئيس) من رفاقه المخلصين، فيزج بهم بمؤامرة مفتعلة للتخلص منهم بعد تعذيبهم واذلالهم، وهذا ما حدث للرفيق شامل حسين الذي اتهم بالاشتراك بالمؤمرة (محمد عايش) ليحكم عليه بالحبس سبع سوات ، ومن ثم يشمله بالعفو الرئاسي ليخرج مراقبا وخائفا ممنوع عليه ان يتحدث عن فترة السجن حتى الى زوجته ام شيماء وبناته السته، زوجته التي عادت من المانيا مع بناتها الى بغداد وقد ابلغوها بإن زوجها اشترك في مؤامرة ضد الرئيس وحكم بالاعدام لكن الرئيس (خفض الحكم سبع سنوات نظير صداقته له)!
شخصيات يزج بها الروائي يحكم وجودها في بقاء البطل وعائلته في سوق الشيوخ، هذه الشخصيات تنتمي الى عائلة(حمزة السهلاني) “البيت واسع المساحة مبني على الطراز العثماني القديم “ورثه السيد حسن ابو مازن قبل عشر سنوات (قيل ان هذا البيت ضيف نوري السعيد) تدير البيت الوالدة المعروفة بقوتها ، وهناك ثلاث بنات والعمة (وجيهة) التوقف عند هذه العائلة المتحمسة في الثورة ضد صدام له ما يبرره، لأن الاب تعرض الى الاعدام لأنه ساعد احد المعارضين الهاربين من الاهوار بالبقاء في بيتهم ليلة واحدة واخفاء سلاحه (RBG7 ) ، وبذلك أبنه (مازن) تعاطف كثيرا مع قضية ابو شيماء واحسن ضيافتهم، وكان يطلب من ابو شيماء ان يقص عليه ما جرى في سجن ابو غريب “كان الرئيس شكاكا، عمل على قتل الحمداني أقرب أصدقائه ..كان مرتابا يعتقد أن الحزبين نصفان، نصف له، والنصف الآخر عليه”ص130
بعد ان عمل شامل بحكم وجوده في شوق الشيوخ مع اهالي شوق الشيوخ كأحد القادة الميدانية للثورة، اتخذوا من احدى المدارس مقرا لبناء جيش الثورة، رغم عدم قناعته بجدوى مثل هكذا ثورة في ظل معرفته بقسوة وقوة النظام والامكانيات المتوفرة في بغداد ” هذا اللواء أبو شيماء، سجين الرئيس، ها هو بيننا الآن” (التوجه الى تشكيل جهد عسكري معارض للنظام، تقوده أنت كضابط محترف) أما السيد قاسم (حسبني المستشار العسكري الأقرب الى الانتفاضة) كان البعض يحلم! كنت اقول لهم (من اين السلاح، والعتاد والقيافة العسكرية، اراك تبسط الأمور، وكأننا في أحراش بوليفيا زمن جيفارا !) والبعض يعد من المندسين يطرح اراء تضلل الثوار مثل شخصية العريف (حميدي) الذي ترك لواءه العشرين اثناء انسحابه القسري من حفر الباطن، كان يقول معارضا مخاوف ابو شيماء من اعادة تنظيم الحرس الجمهوري لشن هجوم على الثوار .”هذا كلام غير دقيق، الجيش منكسر يا سادة، والحرس الجمهوري مشغول بحماية الرئيس، ثم أن بغداد ستسقط بيد الثوار هذه الليلة أو تلي ..استنتاجك سيادة اللواء بعيد الاحتمال، الحرس الجمهوري قابع في ثكناته يخشى الخروج منها.ما تقوله كلام نظري”ص137 .
يتخذ ابو شيماء قرار الهروب من الوطن، لكن المخطط يختلف بعد ان يلتقي ببعض الامريكان، يصطحبونه معهم بعد ان يبرز هويته كونه سفير سابق في المانيا، وتوافق السلطات الامريكية على منحه اللجوء الى امريكا بسرعة ( لكن أمريكا لم تكن في حساباتي..فكرت بالبنات اللواتي تقع اعمارهن في سني المراهقة ..لم يخطر في بالي خروجنا من بيئة مقيدة الى أخرى منفتحة جدا..لا استطيع الذهاب الى دولة أحمل ثقافة الضد الحزبية من وجودها، امتلأت ذاكرتي بتعابير العداء لها دولة عدوة للامة العربية.. اريد الذهاب الى السعودية ، ومنها الى سوريا ) لذلك يقول له القائد الامريكي (هنا انتهت مهمتنا، الذهاب الى السعودية ليس من مسؤوليتنا، ولم يندرج ضمن قوانينا في الحرب، وفي هذه الحالة عليك الذهاب بسيارتك وعلى مسؤوليتك الخاصة) وهنا تبدأ رحلة الضياع (التيه) في الصحراء المرعبة ولعدة مرات يحاول ويفشل ويكاد ان يموت هو وعائلته الى ان ينجح في المحاولة الاخيرة ليصل الى السعودية، وفي محطة (تل اللحم) كان قد نامت العائلة ليلة حتى يأتي الصباح وينطلق، يلتقي ابو شيماء بأحد الثوار من الحزب الشيوعي (الرفيق ماجد) “ألم تر كم هي المفارقة عجيبة، نحن الشيوعيون نحميكم أنتم البعثيون، وحزبكم أحل ذبحنا بطريقة بشعة منذ مجيئه الى الحكم أول مرة عام 1963، وما زال ينحر رقاب رفاقنا كلما تمكن من أحدهم” كانت مهمتهم اصطياد الرفاق البعثيين قال له ابو شيماء (سوف لا تجدون ما تصطادونه، فالطرائد على هذه الأرض تتلون كالحرباء، والصيادون وأنتم منهم لم يتعودوا الانتظار، طريقتكم هذه فيها قر ب من الانتقام، والانتقام بحد ذاته فعل يجر الى مثيله، وهكذا ستبقون بحال من الدوران في محيط دائرة مغلقة نتيجتها خسارة لكل أهل البلاد”ص214 .
حاول الروائي ان يعيد الى الاذهان من خلال شخصية (ابو شيماء) بعض الذكريات عن (مؤامرة محمد عيش) كما يطلق عليها – صدام – 1979 ، والانتفاضة الشعبية (الشعبانية) 1991، وركز على الدور الجماعي للثورة في الجنوب (الام والبنت والابن والاب وحتى الاطفال) واستعمل جماليات ملائمة لموضوعة التنظيم الشعبي للانتفاضة على الرغم من ان الشخصيات في سوق الشيوخ المكان الذي اختاره كعينة لثورة الجنوب صدام كانت تجمع بين السذاجة وانعدام الفكر التعبوي لثورة والتغيير لا ينقصهم الشجاعة والحماسة وانما الخبرة، حاول ابو شيماء ان يعينهم من تلك الخبرة وقدم النصائح لكن من دون جدوى، (تيه الجنوب) هي مواجهة الضحايا لمصيرها في ظل وجود الجلاد – الحاكم- لا يبقى لها الا الضياع في الصحراء للخلاص من ازمتها وان لا يعاد لايها تجربة السجن الظالم والتعذيب اللانساني.
لم تقتصر الرواية على الماضي بسبب موضوعتها في ذلك الزمن لكن الرؤية المستقبلية يمكن ان تستلهم من هذه الرواية.
صحيفة رأي اليوم الالكترونية