“شحاذو المعجزات” تعري الفكر العنصري
ما فتىء الأدب يعرض في سجّلاته أعمالا روائية تكشف عن بؤر الظلام والهمّ الإنساني خلال الأزمنة الغابرة، كعناصر مهيمنة وراسخة في التاريخ البشري. والملاحظ أن الفكر العنصري ظلّ معربدا في إيقاع متوازٍ مع الاستبداد والتعنّت الأيديولوجي إلى حدّ الساعة، مشكلاّ مجريات الأحداث الأخيرة في الولايات المتحدة، إثر اندلاع الاحتجاجات المناهضة للعنصرية والاضطهاد الذي يتعرّض له السود خصوصا بعد مقتل الأميركي ذي الأصول الأفريقية جورج فلويد على يد الشرطة وتفاقم الأزمة مع تزايد المسيرات المناوئة للعنصرية في أنحاء أوروبا.
وبدا واضحا من خلال رواية “شحاذو المعجزات” للكاتب الروماني قسطنطين جيورجيو التي نشرت سنة 1957، والصادرة عن دار ميسكيلياني سنة 2017، ترجمة وحيدة بن حمادو، حجم المضامين الإنسانية المناهضة للعنصرية، كتعزيز لهذه التوليفة الدرامية في فضح عالم عدواني متغطرس، والتذكير بالصراعات الأيديولوجية القائمة بين المجموعات البشرية.
فكيف للمعجزات أن تُصنع وتتبرّم من التعويذات وأناشيد الأسلاف المضطهدين، لينحاز الفرد المسلوبة كرامته والمنبوذ في المجتمع، إلى مخططّات أجنبيّة آثمة تسوّلا للحريّة والعدالة.
لقد قدم ماكس أومبيلينت الرجل الأسود الأميركي إلى أفريقيا، وجلب معه آلات تسجيل وكاميرات لتصوير الحيونات البريّة، رفقة الرجل الأبيض الروسي ستانيسلاس كريتزا، لكنه رحل إلى منطقة متوحشة ليتجه نحو إقليم اكلي لحوم البشر.
لكن غاية ماكس وذهابه تحديدا إلى قرية ايسيوبوليا هي قتل المبشرين الإنجيليين البيض أو “كتبة الإنجيل” الأربعة وفق خطة مُحكمة وتنفيذا لمهمّة استراتيجية روسية تقتضي ضرب القوى الاستعمارية الأوروبية.
لقد تمت مطاردة أسلافه في أفريقيا وبيعوا إلى تجّار الرقيق كي يقتادوهم إلى أميركا، لكنه يجهل أصوله وبلده، وكل ما يعرفه هو أنه سليل عائلة أومبيلينت الثريّة التي تملك مؤسسة ضخمة لإدارة شؤون الجنائز منذ أربعة أجيال. إن ماكس اومبيلينت مليونيرا لكنه سيتحول إلى قاتل لمهمّة من أجل تحرير العرق الأسود المضطهد.
لقد ظهرت في حياته بلانش كنور، الفتاة الأميركية الشقراء، ليفتن بها بعد أن أوقعته في غرامها رغم كل الفوارق العرقية والدينية وانتمائها إلى عائلة شرطيين أبا عن جدّ.
“إن بلانش كنور هي الشرطة، وماكس أومبيلينت هو المقبرة بما أنه سليل حفّاري قبور. فالشرطة تمثل نهاية الحرية والمقبرة هي نهاية الحياة. أما والدة ماكس “الأم أفريكا” كما ينادونها، وحدها يساورها الخوف من لون بشرة بلانش البيضاء، إنها تعرف تماما من خلال سجلاّت دار الجنائز عدد السود الذي يقضون جرّاء معاشرتهم لنساء بيض”.
رغم ذلك وافقت على زواج ماكس من بلانش مثلما وافق الشرطي الأب. واثناء التحضير للزواج يتم اختطاف المليونير الأسود من طرف الإخوة كنور، ويُلقى به وسط الطريق وهو عارٍ تماما ومخصيّ، لكنه لم يفارق الحياة.
لقد تعرّض إلى العنف والتشويه بشكل بغيض، وكان ضحيّة مؤامرة رخيصة من طرف عائلة كنور لسلبه كل ما يملك ثم قتله.
لكن عند اللجوء إلى القضاء يتم غلق التحقيق بعدم سماع الدعوى جرّاء تواطؤ الشّهود البيض ضدّه وغياب الأدلّة، فيغرق سكان المدينة من السود في حزن وقهر.
وحين اُهدرت الحقيقة وانتصر الباطل، اخترقهم صوت موسكو مدافعا عن السود ومعترفا بحقوقهم في العدل والاحترام.
لقد كانت معجزة يؤجّجها الهوس بالعدالة والمساواة، فهل تنتهي مأساة ماكس ويتغير التاريخ بتحوّل السود إلى شحاذين معجزات من أجل المساواة والحريّة؟
بعد أن قضى المبشرون البيض طبقا للمخطط تشرع قوات الشرطة الاستعمارية شنّ عمليات قمعية في تروبيك ضدّ آكلي لحوم البشر لمعاقبة القتلة السود وقد أثارت الصحف ومحطات الراديو والتلفاز ضجّة في كامل العواصم.
لكن ستانيسلاس كريتزا، الروسي الجنسية، هو من أذاع خبر المجزرة الرباعية وهو قاتل المبشرين، ولم يكن آكلو لحوم البشر سوى قتلة مأجورين وماكس أومبيلينت المحرّض على الاغتيال بعد أن وعدهم بتحويلهم إلى بيض كمكافأة على قتل المبشّرين.
وكأي كارثة لها انعكاسات سياسية، نجحت موسكو في توريط أوروبا بامتياز. مع ذلك سيتحمل السّود المسؤولية عن كل مكونات المأساة اعتمادا على وحشيتهم كقبيلة، وعبيدا متمردين خارحين عن القانون وتتم مطاردتهم وقتلهم من طرف الجيش مثلما خطط الروس لذلك.
وهكذا لم يعد باستطاعتهم تسوُّل الاستقلال والحرية. ويتمّ رسميا تأكيد اغتيال الإنجيليّين ماتي ولوقا ومارك وبيانكا. وكان لهذا البيان أثره البالغ على أوروبا العاطفية والمستعدة للدفاع عن المسيحية. لكنها ضمنت أيضا حقول الكاكاو لشعوبها لسنوات أخرى بفضل صنيع السود وفعلهم الوحشيّ.
لقد عاش ماكس اومبيليت الترّقب المرير للعودة إلى أميركا بعد معاناته الجسدية وتأنيب الضمير خصوصا حين اتهم زينو الفلاشي، سائقه المطيع، بتورّطه في موت المبشرين.
لينتهي الأمر بتسليم نفسه حتى يكتمل العقاب وبذلك ينتهي العمل المتقن للبيض ويختم اعترافه بقوله :
” انا أسود والأمر يختلف بالنسبة للسود، لقد نلنا العقاب منذ قرون، دون أن نرتكب جرما. وأنا لست استثناء”.
توظيف السخرية كجزء فني في السرد
لقد حرص قسطنطين على ترصيع عمله السردي بسخرية لاذعة وهو يتوغل في الكشف عن المعاناة البشرية، كما هو الحال في عمله الأشهر “الساعة الخامسة والعشرون”، لكن اللافت أيضا طفو الكثير من التفاصيل بدءا بالتركيبة النفسية وانصهارها في الصورة الذهنية إضافة إلى لغة الجسد التي تشكلت عبر الدراما وتلك المفارقات المضحكة والمبكية في الوقت ذاته.
فيقول الراوي في هذا المشهد :
” إن عبدا دون أسنان لا يقدر على الأكل”، قال آكا. “واذا لم يأكل، فإنه سيفقد قوّته، ولن يصلح لأيّ شيء. نحن نقتلع أسنان كلّ مراهقينا الذكور في قبيلتنا، ولذلك ينجون من العبوديّة “.
تأثّر الرجل الأسود بهذا القول، وقال في نفسه: “أصبح أسلافي عبيدا في أميركا، فقط لأنهم غفلوا عن اقتلاع أسنانهم”.
لقد استطاعت الرواية الإشارة إلى الحقائق والظواهر الملغمّة بالنزعة الاستعمارية والمؤدية إلى الاستنكار ومرارة السخرية إلى نهايتها، مع جرد للتمييز العنصري، وما يتخلّله من تنافر مع متطلبات العقل وشعارات التنوير، من خلال المزعم الديني ورسائل المبشرّين البيض وما تبعها سريعا من مطامع وطرائق ملتوية، بل سيطرة واضطهاد نابع من التمييز العرقي والايديولوجي، ليغدو الإنسان أعزل إلا من تاريخه وحكايات شعبه بعد أن سلبت منه الحرية والحياة.
ميدل إيست أونلاين