دول على أريكة طبيب نفسي

قرأت تصريحا للورد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا عن أحداث غزة، فكان طبيعيا ومعتادا أن تثار مشاعر كثيرة في داخلي. أثيرت وتداخلت وكان أبرزها قرف وغضب ورغبة في شماتة ولو مسحة منها. ازداد القرف والغضب عندما قارنت ما صرح به، وخاصة رده على زعيم المعارضة إيد ميليباند بمواقف وتصريحات رؤساء حكومات في بوليفيا وفنزويلا والبرازيل والارجنتين وشيلي وغيرها.

لم يخفف من مشاعر القرف والغضـب حقيقة مـدوية وهي أن حكاما من العرب بل ربما أكثرهم، لم يتخذوا مواقف أفضل كثيرا من موقف اللورد كاميرون والسيد باراك أوباما و«المسيو» أولاند وهم من أبرز زعماء العالم الحر ومن دعاة احترام حقوق الإنسان وحماية النساء والأطفال في أوقات الأزمات والحروب. هؤلاء، ومعهم زعماء من العرب تعاملوا مع تطورات الحرب على شعب غزة، من واقع اعتقادهم أنها حرب تشنها إسرائيل على تنظيم سياسي يناصبهم ويناصبونه الخلاف وربما العداء. استطعت أن اتفهم المواقف الرسمية العربية التي تستند عادة إلى قاعدة عدم التمييز بين الحاكم والشعب، أو الحكومة والدولة والشعب. هم متخاصمون مع حكومة «حماس» وبالتالي شعوبهم متخاصمة مع شعب غزة. بهذه البساطة تتحول انفعالات حاكم أو نخبة حاكمة إلى حالة كره عام وضغينة دائمة أو موسمية. تفهمت بالألم الشديد المواقف الرسمية العربية من حرب غزة، ولكني لم اتفهم إطلاقا مواقف كاميرون وأوباما وهولاند، دعاة الحرية والعدالة والتقدم.

لم يسأل حكام كثيرون أنفسهم عن ذنب شعب غزة حتى إن كرهوا حكومته وأرادوا لها الهزيمة. لم يفكروا طويلا لأنهم اصطنعوا الاعتقاد بأن شعب غزة توحد مع حكومته كما «توحدت» شعوبهم معهم. حرصوا حرصا لا متناهيا على أن يسارعوا إلى إعادة توجيه الانتقادات لسياساتهم لتصب كراهية متبادلة بين الشعوب، بعد أن يكون الإعلام الرديء قد نجح في تصوير الأخطاء التي يرتكبونها أوزارا تتحملها الشعوب.

[[[

اللورد كاميرون ليس استثناء. ولن يبرد من ثورة غضبي عليه ما أعلمه من أنه ومستقـبل بلاده في حال لا يحسدان عليها. تذكرت مقالا في صـحيفة أمـيركية، نشر قبل شهر أو أكثر، يصف فيه كاتبه بريطانيا كمريض مستلق على أريكة في عيادة طبيب نفساني. الحالة مستعصية، كما يبدو على سمات المريض ورد فعل الطبيب، فالمريض يعاني من «أزمة هوية حادة»، تسببت في انهـيار عصـبي شـديد. ظهر أخـطر عرض من أعراض هذه الحـالة عندمـا أعلن أليكس سالموند، رئيس الحزب القومي الاسكتلندي، صاحب الأغلبية في البرلمان المحلي في عام 2011 عن نية حكومته إجراء استفتاء في العام 2014 للشعب الاسكتلندي على مشروع الانفصال عن المملكة المتحدة وإعلان استقلال اسكتلندا دولة أوروبية حرة.

كان للإعلان في وقتها دلالة، بل دلالات كثيرة مهمة، كما كان لتحديد تاريخ الاستفتاء سنة 2014 مغزى كبير. ففي هذا العام يحتفل الشعب الاسكتلندي بالذكرى السبعمائة لانتـصار عسـكري تحـقق بقيادة البطل الاسكتلندي روبرت ذا بروس، على جيش إدوارد الثاني ملك إنكلترا. هكذا استـمر العنصر القومي في العلاقة بين اسكتلـندا وإنكـلترا حيا وفاعلا لأكثر من سبـعة قرون، وهـا هو الآن يقرر من جديد مصير المملكة المتحدة كدولة متعددة الكيانات. مرة أخرى نعيش تجربة شعب يحن إلى أمجاد قومية، يفضلها على نعم أخـرى مـادية ومعنوية.

[[[

لا شماتة. صحيح أن عددا متزايدا من دول العالم العربي يتعرض الآن لأزمات هوية متعددة، بل ان في كل دولة عربية شجرة أزمات أغلبها أزمات هوية. صحيح أيضا أن أعراض بعض هذه الأزمات حرجة إلى درجة تهدد وجود دول. ليس سرا أن بعض هذه الدول يتعرض لانهيارات عصبية متعاقبة وتشنجات هوية لا تنقطع. إلا أنه يبقى صحيحا أيضا، أن الداء يتدهور بسرعة ليصير وباء، لا يميز بين دول نامية ودول متقدمة، أو بين شرق وغرب، أو بين شمال وجنوب. هناك أزمات هوية، بعضها شديد التعقيد، وبعضها شديد الالتهاب، يكاد لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات.

من ناحية ثانية: لا شك عندي في أن الاستفتاء المزمع إجراؤه في اسكتلندا بعد حوالي 40 يوما، يؤكد في حد ذاته ومن دون انتظار لنتائجه، عمق أزمة الهوية في بريطانيا. ولكن يخطئ من يعتقد أنه العارض الوحيد، إذ تواجه بريطانيا أزمة هوية في علاقتها بالاتحاد الأوروبي، بدأت قبل انضمامها، واستمرت خلال عضوية بريطانيا في الاتحاد ورفضها الانضمام إلى اتفاقية العملة الموحدة. والآن يضيف اللورد كاميرون تعقيدا إضافيا عندما يعلن عن نية حكومته إجراء استفتاء على استمرار عضوية بريطانيا إذا لم يُلَبِّ الاتحاد شروط بريطانيا. أهم هذه الشروط ضرورة إبطاء مسيرة الوحدة الأوروبية ووقف القيود على سيادة وسلطات الدول الأعضاء لمصلحة سلطة المفوضية في بروكسل.

من ناحية ثالثة تعرضت مكانة بريطانيا الدولية للانحسار المتوالي مرة بعد مرة. بدأ الانحسار مع مطلع القرن العشرين والحرب العالمية الأولى، وعالجه ساسة بريطانيا بالاعتماد شبه المطلق على صعود الولايات المتحدة وقوتها ومكانتها. استطاعوا بناء علاقة خاصة بين الدولتين، صمدت في وجه النازيين والفاشيين والشيوعيين على امتداد القرن العشرين. المهم في هذا التاريخ الوجيز لانحسار بريطانيا هو أن البريطانيين، ساسة وشعوبا، يشعرون الآن بأنهم يفقدون هذه العلاقة الخاصة التي أمنت لهم في الماضي مستقبلهم ونموهم الاقتصادي. كانت هذه العلاقة «الخاصة جدا» آخر ما تبقى لهم من التراث الامبريالي، إلى حد أن سياسيين بريطانيين لا يخفون قناعتهم أن الصين صارت أهم لأميركا من بريطانيا كشريك في القيادة.

من ناحية رابعة، لم يقتصر السبب في أزمة الهوية المتفاقمة على صعود الروح القومية في اسكتلندا وويلز. تفاقمت الأزمة لأسباب عديدة مثل ظروف العولمة والتوجه المتصاعد نحو اليمين في سياسات حكومات المملكة المتحدة خلال الأربعين عاما الماضية، وهو التوجه المتناقض تاريخيا وسياسيا مع المزاج الليبرالي، واليساري أحيانا، للشعب الاسكتلندي. تفاقمت أيضا حين أصبح يعيش في بريطانيا البريطاني الأسود والبريطاني المسلم والبريطاني الشرق أوروبي والبريطاني الهندي. تغيرت بريطانيا مكانة وعقيدة اجتماعية واقتصادية وتغيرت شكلا وسحنة ولونا.

[[[

لم تكن هذه التحولات غائبة عن النخبة البريطانية الحاكمة. حاولت هذه النخبة وبذلت جهودا كبيرة وتدخلت لإعادة توازن القوى الى المتجمع البريطاني من جهة والى القارة الأوروبية من جهة أخرى. اصدرت قوانين حازمة للهجرة، وامتنعت في حين أو آخر عن مسايرة السياسة الخارجية الأميركية بحذافيرها، وحاولت الاحتفاظ لنفسها بهامش من حرية القرار في السياسة الدولية، بل راح كاميرون نفسه يدعو إلى انعاش منظومة «القيم البريطانية» دون أن يعرف تماما ما يعنيه بالقيم البريطانية، تحدث مثلا عن «الماغنا كارتا» كوثيقة تاريخية تجسد هذه القيم، وعندما سئل عن معناها الحرفي اتضح انه لا يعرف. راحوا أيضا في لندن يبرزون دور رموز التاج البريطاني مثل الجيش بإشراكه في الاحتفالات القومية وإنعاش الذاكرات التاريخية عن الأمجاد القديمة، خاصة الإمبراطورية.

[[[

لا شيء يؤكد أن الاسكتلنديين سوف يقررون يوم 18 سبتمبر/أيلول المقبل استقلالهم عن المملكة المتحدة، فالناس هناك ما زالت حائرة تتـنازعها عـناصر العاطفة والمنطق. نصف سكان اسكتلندا يعتقدون أنهم سوف يكونون أسعد حالا إذا وقع الطلاق بينهم وبين التاج البريطاني. يعتقدون أيضا أنهم أقرب مزاجا ورفاهة من الشعوب الاسكندنافية منهم إلى شعب انكلترا وغيره من شعوب وسط وجنوب أوروبا. آخرون يعرفون عن ثقة أن الاتحاد الأوروبي لن يوافق على انضمامهم قبل مضي وقت طويل، ويدركون تماما ان أميركا لن ترحب بانفصالهم وأن الصين رفضت تشجيعهم وألمانيا لا تريد للانفصال أن يقع. أتصور أن ألمانيا لا تتمنى أن ترى بريطانيا أضعف مما هي عليه الآن، فضعفها الحالي صار ملموسا ومؤثرا في نظام توازن القوى الأوروبي، وعلى موقع ألمانيا فيه ويحملها ما لا تريد أن تتحمله.

أكاد ألمس تفاصيل وثنايا أزمة الهـوية البريطانية في أسوأ صورها في كل مرة اسمـع فيـها أو أرى السيد طوني بلير. ألمسها حين اسمعه مدافعا عن دوره في حرب العراق ومتبرئا من الأذى الأخلاقي المريع الذي لحق بسببه بمكانة بريطانـيا في العالم. وألمسها حين أراه متنقلا بين قصور العرب بدون أي سبب شريف أو مبرر منطقي. أتصوره أحيانا تجسيدا صاعقا لصورة التصقت بمخيلـتنا العربية عن شخص رجل الاستعمار البريطاني الذي بفضله المتناغم مع فضل بعض قياداتنا العربية وصلنا إلى ما نحن فيه.

صحيفة الشروق المصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى