الإمارات اللبنانية غير المتحدة تعود إلى الانتداب

 

لو كانت لنا دولة، لا إمارات طائفية منخورة بالفساد لكانت لنا فرصة ممتازة للعب على التوازنات والاختلالات، كما تفعل جميع الدول الحية، ولنفذنا من تلك الكوة إلى تحقيق مصالحنا.

عندما قرّر البريطانيون في العام 1969 الانسحاب من الخليج العربي في العام 1971، كانوا قد ذكّوا الصراعات القبلية في المرحلة السابقة، وتمكّنوا بفضلها من إنشاء محميات صغيرة تابعة لهم، ووضعوا على رأسها من أرادوا. وفي الفترة القائمة بين التاريخين: الإعلان والانسحاب، قرَّروا جمع المشيخات – المحميات في اتحاد واحد سمي دولة الإمارات العربية المتحدة، لم تلبث أن خرجت منه كلّ من قطر والبحرين.

وعندما انتدبت فرنسا على نصف سوريا التاريخية بعد الحرب العالمية الأولى، تنفيذاً لمعاهدة سايكس بيكو، أرادت أن تفعل الشيء نفسه، ففشلت في سوريا الصغرى (سوريا اليوم)، وسقط مشروع تقسيمها إلى 3 دول مذهبية، لكنها نجحت في فصل لبنان عنها، مستفيدة من تبعات مجازر دمشق في العام 1860، والحرب المذهبيّة التي أعقبتها في الجبل اللبناني، والمجاعة التي سببتها تركيا في الحرب الأولى، فكان ما سمي دولة لبنان الكبير، ولكن على أساس محاصصة بين كتل طائفية. هناك ركبت “الدولة” على أساس قبلي، وهنا ركبت الدولة على أساس طائفي. في الحالين، ثمة مفهومان ما دون الدولة، وعنصريتان دينية وقبلية، وكلاهما هوية جزئية تجزيئية ما دون المجتمع، وبالتالي ما دون الدولة.

هذا المنطق لم يكن له إلا أن يوصلنا إلى واحد من خيارين: إما نسفه والارتقاء إلى مفهوم الوطن والمواطنة الذي يحتضن جميع الهويات الفرعية، ويعلو عليها، ويبقيها خارج استحقاقات الدولة، وإما يوصلنا إلى ما وصلنا إليه في المرحلة الأخيرة ما قبل المئوية: إلى مفهوم غريب هو “الأقوى في طائفته”، وليس الأقوى في وطنه – دولته. هذه القوة لا تعني فقط اعترافاً رسمياً فعلياً بالإمارات المنفصلة التي يسميها المتحذلقون “مكونات”، وهو مصطلح لم أجده في أي قاموس سياسي – اجتماعي متحضّر.

هذا الأمر استدعى حكماً جملة من الأمور: أولها أن الأمراء التقليديين هم أولئك الذين ورثناهم من أيام العثماني، ويولدون – كما بعض الأجنة – في كيس مكتوب عليه لقب “عفى عليه الزمن” في العالم المتحضر أيضاً. وعندما أدت الحرب الأهلية إلى انقلابات طبقية كبرى لدى معظم الطوائف، اعتلى العروش أمراء جدد بألقاب جديدة علمية ووظيفية لا تشكل إلا التغيير الوحيد في الممارسة والمفاهيم.

ثانيها أن مفهوم القوة لدى كل من هؤلاء يبدأ بالحشد الطائفي، ولكنه لا يكتمل إلا بجمع الثروات، التي كلما تضخمت تضخم النفوذ إلى حدّ لا يؤمن أصلاً بالدولة ولا بالناس كي يحترم حقوقهم وثرواتهم، ولا يتكلل أخيراً إلا بضمانات علاقات خارج الحدود – ليست ككل تلك العلاقات الدولية المعروفة – وإنما علاقات لم تزل تبحث عن الحماية منذ أيام المتصرفية، فما دام ليست هناك دولة تحمي، فإن حاجة الإنسان البديهية إلى الحماية تذهب إلى الطائفة، لكن الأخيرة تشعر بأنها تحتاج بدورها إلى حماية أكبر في مواجهة الأخ الآخر المتسلح بدوره بمن يحميه، غير أن المصيبة المسخ في هذا كله تكمن في أن هذه الحماية التي توصف بأنها للطائفة، إنما هي حماية لناطور المعتقل الطائفي الذي يقف على بابه ليس أكثر.

ثالثها أن هذا الواقع لم يكن له إلا أن يذهب إلى الفساد بأبشع صوره؛ فساد أمراء الطوائف، وبما أن الناس على دين ملوكهم – فساد كل واحد وما طالت يده، لتسقط الأخلاق، ويسقط البلد، “وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت…”.

رابعها، وهو الأخطر والأهم، هو أنه عندما فتحت هذه التركيبة الطريق أمام الإسرائيلي لاحتلال البلد وتحويله إلى محمية إسرائيلية، ونشأت في وجهه حركة مقاومة حقيقية من أشرف وأنجح ما عرفه العالم، لم تستطع هذه الحركة إلا أن تؤول إلى بعد مذهبي، وأن تجد نفسها بحجّته موضع تآمر وتهديد واستهداف مستمرّ.

هكذا وصلنا إلى المئوية، وهي ليست شيئاً في عمر الدول، إلى مشهد مسرحي تافه لا يعني إلا إلغاءً حتى للهياكل المتآكلة من هياكل الدولة. تسمية رئيس الوزراء تحصل في اجتماع أمراء قبيلة طائفة الرئاسة الثالثة، وفي دارة أحدهم، ونوّاب الشعب العظيم يرتدون بدلاتهم، ويذهبون إلى قصر الرئاسة ليُستشاروا في ما لا قيمة لرأيهم فيه، لأنه سقط على الجميع من الخارج، وفرض رجل إن هو إلا “برافان” لأحدهم أو لبعضهم، ممن طالتهم أقوى تهم الفساد في لبنان والدول المجاورة. ومن ميزاته أنه يحمل جوازاً فرنسياً، مثله مثل وزير الخارجية السابق الذي استقال ما إن غضب لودريان.

ولا شك في أننا سنرى مواطنين فرنسيين جدداً في الوزارة الجديدة، وسيستمر رئيس فرنسا في الحديث إلى المسؤولين اللبنانيين بكل العجرفة والتهديد، وفي تجاوز الأعراف الدبلوماسية المرتبطة باحترام السيادة، فيتجول ويتوجه إلى الناس بشكل مباشر، وقبل أن يقابل أي مسؤول (كما لا يستطيع أن يفعل في بلاده).

وفي المقابل، يصر على إيكال توزيع المساعدات إلى لصوص ومتسولي منظمات المجتمع المدني الممولة أجنبياً، التي كتب عنها هيوبرت فيدرين في العام 2000 صفحة كاملة في “لوموند”، يوضح فيها كيف تنخر جسد الدول وتدمرها، إذ يصبح ولاؤها لمن يموّلها ويخطّط لها، ولا تلبث أن تضع نفسها بديلاً من الدولة.

على هذه الحال وصلنا إلى المئوية، ونحن في خضم صراع إقليمي ودولي يضع العالم كلّه على مفصل تحول تاريخي كبير. يعيش العالم اليوم واقع انحسار الأحادية الأميركية العولمية التي هيمنت عليه منذ العام 1990، وذلك ما ولد صراعاً بين خطين: خط رأسمالية حمائية تمتد من دونالد ترامب إلى ماكرون – وبعض الأوروبيين الآخرين – إلى بوتين، وخط عولمة جديدة تريد أن تحلّ محل الأولى، وهو خطّ تقوده الصين بامتياز.

هذا الصراع لم يترك الدول نفسها، كل منها في خط واحد، بل ظهّر الخلاف داخل كل منها؛ خلاف يتمظهر في السياسة، لكن عمقه اقتصادي بامتياز، تلعب فيه الشركات والدول جنباً إلى جنب. وبهذا يفهم الصراع والافتراق بين خطين في الولايات المتحدة الأميركية، ويفهم سقوط بعض الحدود بين جمهوري وديمقراطي، من دون أن يعني ذلك افتراقاً بالنسبة إلى السعي إلى السيطرة على خيرات الشعوب الأضعف، بالعولمة أو بالحمائية لا فرق، وعلى المواقع الجيوبوليتيكية الاستراتيجية على امتداد خطوط المواجهة والحسم، وهي خيرات تصدَّرها مؤخراً الغاز، ومواقع تصدّرتها الموانئ، لأسباب كثيرة، ليس أقلها مشروع الحزام والطريق الذي تعوّل الصين عليه في مدّ نفوذها.

وفي هذا السياق، تحاول فرنسا أن تنفذ من جديد إلى محميات انتدابها السابقة، لتحجز مكانها على الخارطة الجديدة (وهو تماماً ما فعلته من العام 2007 إلى بداية العام 2010 مع لبنان وسوريا وإيران)، ودائماً بالتنسيق مع الإدارة الأميركية وبتفويض منها، حتى إذا لم تنجح عملية الاحتواء يومها، وصلنا إلى تفجير سوريا وترك لبنان، لأنّ سقوطه كان مجرد ارتداد لسقوط الدولة السورية.

لكنَّ رهان الحرب هذا في سوريا لم ينجح، وإنما على العكس، كرّست النتائج حضوراً روسياً وصينياً لم يكن يحلم به صاحباه، إضافةً إلى الحضور الإيراني، فعاد الالتفاف إلى الخاصرة الرخوة، لذاتها، ولأنها تشكّل مدخلاً إلى سوريا وإيران.

وفي هذا السياق، فرضت الدول المانحة على لبنان قائمة الخصخصة الّتي وقف سعد الحريري يتلوها علينا قبل استقالته بالتفصيل، وكان المرفأ أول اسم في القائمة، لتليه الكهرباء والطاقة والاتصالات، وهو ما يحفظه الأرشيف القريب، وما عاد إلى تكراره ماكرون أمس، إضافةً إلى مرفأ طرابلس الذي سيكون له شأن آخر.

الخصخصة هي مدخل تجريد الدولة من ممتلكاتها لصالح شركات يعلم الله وحده من يملكها، ولكن أي مراقب بسيط يمكن أن يشهد الراية الأميركية، وتحتها الأوروبية، وتحتهما الرايتان الإماراتية والقطرية، الأولى يحضنها الفرنسي والثانية يحضنها التركي، وكلاهما يؤديان إلى الإسرائيلي، بينما تتقابل السعودية مع الإيرانية، في حين يراقب الروسي والصيني الشبكات، ويبحثان عن منفذ مضمون، في ما يفسر مسارعة الفرنسي مدعوماً من الأميركي، والمساهمة النشطة للمصري.

في ظلّ هذا التشابك، لو كانت لنا دولة، لا إمارات طائفية منخورة بالفساد، ورقبتها تحت نير امتلاك الغرب لفضائحها، ومنها أرصدتها، “أموالها المنهوبة والمهربة”، عدا عن أسرار يبقى مسكوت عنها لحاجات التهديد عند اللزوم، لكانت لنا فرصة ممتازة للعب على التوازنات والاختلالات، كما تفعل جميع الدول الحية، ولنفذنا من تلك الكوة إلى تحقيق مصالحنا.

ولو كانت لنا قوى شعبية غير هذه: جمهور منقسم بين حاقد طائفي قد يوصله حقده إلى الجريمة، ومرتزق يبيع لمن يشتري، بدءاً من الصوت الانتخابي إلى أمن الدولة، ومروراً بكلّ ما يمكن ويُعاب بيعه، صغر أم كبر، وطامح ليس في طموحه شيء من الأحلام الكبيرة التي تصنع المجتمعات والدول، وسطحي غوغائي قد لا يكون سيئاً، ولكنه لا يعرف التمييز بين السيئ والجيد، وكلهم نتاج ثقافة استهلاك مريض رخيص ينفق مما لا ينتج، ويردّد ما لا يفهم، ويعوّض القيم الحقيقية بقيمة الشكلانية الخارجية. وبين كل هؤلاء، تعجز قلة من الواعين الذين يصرخون حتى البحة في صحراء، أو يقاتلون حتى الشهادة لبقية من كرامة، أو ينكفئون يائسين.

لو كنّا غير ذلك، لما احتفلنا بإيمانويل ماكرون وكأنه بابا نويل، لا رئيس دولة استعمارية، خاصيَّة استعمارها بأنها تمهد له دائماً بالثقافة – وفي هذا تفهم زيارته للسيدة فيروز واصطحابه أمين معلوف (على الفارق الكبير في شرف الموقف بينهما)؛ دولة ساهمت قبل نصف قرن من إعلان لبنان الكبير بترسيخ هذا المرض الطائفي، كي تنتزع باسمه امتيازات ثم انتداباً من المستعمر الآخر، التركي، الذي كان، وما يزال، بدوره، يستغل البعد نفسه لتجييش المذهبيين المرضى في كل العالم العربي، ولرأينا ببساطة أن ماكرون جاء إلى بيروت كجزء من معركته مع التركي في ليبيا وأفريقيا، ما يفسر دور السفير المصري في التسمية، وكجزء من اندراجه في عملية قطع الطريق على الصيني على محطات وموانئ طريق الحرير.

لقد جاء وبرفقته رجل المصارف سمير عساف، ليشرف على مصرف لبنان، ورجل الموانئ رودولف سعادة، رجل الشحن البحري وإدارة الموانئ، و5 شركات فرنسية متخصصة في الأمن والدفاع والصناعات البحرية والمعلوماتية. وقبل كل هؤلاء، وزير خارجيته، وريث جورج بيكو، والاشتراكي الوحيد الذي احتفظ به ماكرون في وزارته، لأنه، كما تصفه الدوائر الفرنسية، “رجل الصفقات”، وأهم صفقاته تلك التي أخذ فيها المليارات من مصر ودول الخليج، وصفقة أخرى من أستراليا سميت بـ”صفقة القرن”، وتتضمن بناء الأسطول البحري الأسترالي بقيمة 40 مليار دولار، كما وصفت – وذلك هو الأهم – بأنها تعني دخول أستراليا على خط مواجهة الصين في المحيط الهندي. (الميادين نت: ليبانومانيا بعد الإيجيبتومانيا، 4 آب/أغسطس 2020)، وها هو يخير اللبنانيين بين صفقة مماثلة، بل صفقات، وفي أكثر من مجال، وإلا.. تهديد لم يخجل ولم يراعِ في أن يعلنه صراحة إزاء جميع زعماء الإمارات غير المتحدة.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى