مع نزار وناقده
د. رياض عصمت – لا جدال في أن الشاعر نزار قباني ما يزال يحتلّ مكانة رفيعة في قلوب ملايين العرب بعد رحيله عن دنيانا عام 1998 عن 75 عاماً، حين أعيد جثمانه من لندن ليوارى الثرى في مسقط رأسه وعشقه الأبدي دمشق. يومها، شُيّع نزار قباني وسط حشدٍ شعبي هائل، وأُطلِق اسمه على شارع في دمشق، كأنما ليعوِّض ذلك عن التجاهل الرسمي.
من المستغرب أن كتباً قليلة نسبياً نُشرت عن نزار، أبرزها كتاب محي الدين صبحي، وآخر لشقيقه د. صباح قباني. يُعزى السبب إلى أن إبداع نزار، يسلّم مفاتيح التواصل بسهولة ويسر للمتلقّي العادي، بل إن الجمهور العربي حفظ كثيراً من قصائد نزار غيباً عبر الأغاني التي لحَّنها بعض كبار المؤلّفِين الموسيقيين مثل محمّد عبد الوهاب، ومحمّد الموجي، وعاصي الرحباني، وكاظم الساهر، وغنّاها بعض أشهر المطربين مثل أمّ كلثوم ، وعبد الحليم حافظ ، ونجاة ، وماجدة الرومي، وأصالة، وطلال المداح، وسواهم. لذا، فظهور كتاب جديد عن نزار قباني يُعَدّ حدثاً لافتاً للنظر، خاصة أن كاتبه هو د.حسام الخطيب، أحد أهم الباحثين الروّاد في الأدب المقارن، الذي جمعته في شبابه صداقة مع نزار، استمرّت حتّى بلغ الرجلان خريف العمر، في وفاء نادر بين شاعر وناقد.
في الواقع، تتعدَّد مستويات كتاب «نزار قباني: أمير الحرية وفارس العشق»، مع تباين مضامين فصوله وأسلوبها. ينوس الكتاب بين تحليلات نقدية على غاية من الإشراق والعمق لتدلِّل على مقدرة ناقد يمتلك بصيرة منفتحة على آفاق الحداثة، وبين فصول أخرى عادية الطابع من الذكريات المحضة، تتضمَّن لقاءات ومراسلات بين الشاعر والناقد. كما يتضمَّن الكتاب معلومات توثيقية عن الشاعر، ومختارات من قصائده، بالأخص تلك التي تتناول هموماً سياسية، رغم أن الانتقاء ظلم بعض القصائد الأخرى المهمّة، وأغفلها.
منذ البداية، يعترف الخطيب أن كتابه ليس كتاب سيرة عن حياة نزار قباني، خاصةً أن الشاعر كتب سيرته الذاتية في «قصتي مع الشعر»، الذي نشره قبل وفاته بتسع سنوات. لكن الباحث يلقي الأضواء على نقاط مأساوية معينة أثرّت في إبداع نزار، منها أثر انتحار أخته، ووفاة أمه وأبيه وابنه وزوجته بلقيس. ينوء قلب أي إنسان بالفجائع، فما بالنا بقلب شاعر مرهف كنزار؟
يصف الخطيب سمات صديقه منذ أيام الحياة الجامعية، فهو شخص متابع للثقافة والفنون، يتَّسم بدبلوماسية رفيعة، ويتمثّل جوهر الحضارة. كما يؤكد نفور نزار من الرياء للحكّام، وإصراره على ألا يزور بلداً يمنعه من إلقاء قصائده بِحُرّية. يذكر الكاتب أيضاً موقف نزار قباني القومي ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، بحيث لا يعرف صاحب أغنية «أصبح عندي الآن بندقية» معنى المهادنة، حتى نشبت معركة نقدية راقية في الصحافة بينه وبين الأديب الكبير نجيب محفوظ. ولعل من أجمل ما نقله الكتاب عن شاعر في مثل قامة نزار قوله: «لو أن طفلاً في نواكشوط لم يفهم بيتاً من شعري، فمن واجبي الذهاب إليه والاعتذار منه».
في ثاني فصول الكتاب وأمتنها أسلوباً، يرى الخطيب أن أهمّ ميزات نزار قباني ومساهماته أنه عمل على تحطيم الوثنية الشعرية التقليدية، وحرّر القصيدة الحديثة من الجبرية ومن حتمية البحور الخليلية والقافية الواحدة، فخرج بذلك من «الموالاة» إلى «المعارضة»، متجاوزاً حدود القبيلة في انقلاب شعري. في هذا الفصل الذي يحمل عنوان «سقوط الوثنية الشعرية»، يكتب الناقد: «هل هناك قصيدة عربية حديثة؟ هل نستطيع أن نقول إن الأرض التي مشت عليها القصيدة العربية خمسة عشر قرناً قد ضربها زلزال مفاجئ، فغيّر تركيبها العضوي والجيولوجي تماماً؟ الأكيد أن القصيدة العربية قد انفصلت عن شجرة العائلة، وهربت نهائياً من مبيت الطاعة/ ووصاية الأجداد. والأكيد الأهمّ أن القصيدة العربية اكتشفت صوتها الخاصّ، بعد أن كانت مجموعة من العادات اللغوية والبلاغية، أخذت مع مرور الزمن شكل المسلّمات الدينية التي لا تقبل الجدل والنقاش. وباستثناء الأصوات المتفردة، فإن غالبية القصائد العربية كانت في حقيقتها قصيدة واحدة، تنقل عن أنموذج محفوظ في الذاكرة وسابق للتجربة». ويتابع: «ولقد استمرت القصيدة/الموت متمدّدة على حياتنا خمسة قرون، لا يجرؤ أحدٌ على دفنها. وكانت القصائد في تلك الحقبة كأضرحة الأولياء، لا يُسمَح لأحد تدنيس حرماتها والاعتداء على مُقَدَّساتها». ويضيف: «إن التحولات السياسية العنيفة التي تعرّضت لها المنطقة العربية في مطلع هذا القرن ما كان يمكن أن تتمّ بمنأى عن تحوُّلات مماثلة في عقل الإنسان العربي وفي لغته. ومن هنا كان على القصيدة العربية أن تنسجم مع الثورة أو تستقيل، أن تتقدّم نحو المستقبل أو تدفن نفسها في ضريح التاريخ وتتحوَّل إلى ذكرى». في الواقع، لا شيء يغني عن قراءة هذا الفصل الرائع، فهو فصل للتاريخ والذكرى في استجلاء جذور وفروع ثورة الشعر الحديث في النصف الثاني من القرن العشرين. إنها بصيرة متجلّية عند الناقد الخطيب، الأستاذ الجامعي المخضرم، الذي سبق أن حاز جائزة الملك فيصل الرفيعة في ميدان الأدب المقارن، وقام بالتدريس في جامعات سورية، واليمن، وقطر، وأشرف على عديد من مشاريع الترجمة من اللغة الإنجليزية إلى العربية لبعض أمهات الكتب النقدية.
يركز الكتاب على أن الهمّ السياسي/الاجتماعي تجلّى مبكراً عند نزار في الوقت نفسه، وبشكل متزامن مع قصائده العاطفية والحسيّة، وتحديداً منذ قصيدته «خبز وحشيش وقمر» (1954)، التي أثارت ردة فعل عنيفة لدى المحافظين في البرلمان السوري آنذاك، وصولاً إلى قصيدته الأخرى الشهيرة «هوامش على دفتر النكسة» (1967)، التي جعلت الإعلام المصري يهاجمه بضراوة إلى حدّ المطالبة بمنع دخوله إلى مصر. يومها، كتب نزار قباني رسالة تظلّم إلى الرئيس جمال عبد الناصر يشكو فيها ما يلقاه من ظلم. ورغم مشاغل عبد الناصر وهمومه الكثيرة،فقد قرأ الرسالة بإمعان، ووجّه بالتعليمات الحاسمة التالية: «لم أقرأ قصيدة نزار قباني إلا في النسخة التي أرسلها إلي، وأنا لا أجد أي وجه من وجوه الاعتراض عليها. تُلغى كل التدابير التي قد تكون قد اتُّخِذت خطأ بحقّ الشاعر ومؤلفاته، ويطلب من وزارة الإعلام السماح بتداول القصيدة. يدخل الشاعر نزار قباني إلى الجمهورية العربية المتحدة متى أراد، ويكرّم فيها كما كان في السابق». لذلك، كتب نزار قباني واحدة من أهمّ وأروع قصائده قاطبة في رثاء الرئيس جمال عبد الناصر.
يوثِّق الباحث حسن استقبال الشاعر الكبير نزار قباني لتحليلاته النقدية عبر لقاء تليفزيوني أجراه الأديب والإعلامي د. رياض نعسان آغا. يقول الخطيب في اللقاء: «نزار بما قدّمه منذ البدء كان مبدعاً. ظلّ حائراً بين المظاهر وبين المعاني، وفي هذه الناحية كتب كثيراً عن المرأة، كتب كثيراً عن أوصافها وعن مفاتنها. ولكن، مع ذلك، لم يستطع أن يتوصَّل إلى فكرة، إلى فلسفة، سواء أكانت فلسفة نظرية، أم كانت فكرة اجتماعية في هذا المجال». يردّ نزار مثنياً بتواضع جمّ على صديقه الناقد، متنكراً لدواوينه الأولى في توضيح مهمّ: «النهد ليس مصدراً أو ينبوعاً للذة، بل طموحاً دائماً للأعلى، للتفوق، للغضب، للثورة». يتجاوب الناقد الخطيب قائلاً: «وفي رأيي، من خلال نظرة لاحقة وهادئة أن نزاراً كان حائراً في هذه الفترة بين مغريات الجمال الجسدي والمظهري، وبين المعاني الإنسانية لتجربة الرجل والمرأة». يخالف الشاعر الناقد فقط في استخدامه مصطلح «شعر المناسبات». إذ يصف نزار قصائده السياسية بأنها «شعر الحدث التاريخي»، ويعلن نزار أنه ضدّ ما يسمّيه «قصائد الأنابيب» في غمزة مهَّذبة ضدّ أولئك الذين يكتبون شعراً عصيّاً على الفهم، حافلاً بالرموز المبهمة. كما يثني نزار على رأي المحامي نجاة قصاب حسن، معلِّقاً: «الشرق كلّه مغطّى بلحاف التقاليد والتابوات والمُحَرَّمات، وإن أي رجل أو امرأة يمدّ رجله خارج اللحاف توضع رجله في الفلقة. أودّ أن أطمئن صديقي نجاة أنني بعد أربعين عاماً من النضال والقتال بالأسنان والأظافر والسلاح الأبيض، استطعت أن أنتف هذا اللحاف قطنة قطنة، حتى استطاع الرجال والنساء أن يمدّوا أصابعهم خارجه دون أن يتعرَّضوا للفلقة»، لا ينسى نزار أن يخصّ صديقه الفنان الراحل عبد الحليم حافظ بأجمل الذكرى، وهو الذي غنى له «قارئة الفنجان» و«رسالة من تحت الماء»، كما يذكر حكمة الموسيقار محمد عبد الوهاب وبعد نظره.
لكن الكتاب، الذي ضمّ فصولاً قيّمة، كان يمكن أن يستغني عن بعض المقاطع الصحافية، التي لا دور لمؤلِّفه ولا للشاعر الكبير فيها، إذ إنها أطالته، وأثقلته دون مبرر. بالمقابل، كان من المفيد لو تابع الباحث انتهاج السبيل الذي استهلّ به الكتاب في تحليل ذكي وبارع لبعض الأشعار البارزة، سواء قصائد تغزّل الرجل بالمرأة، أو التي تمثّل فيها نزار مشاعر المرأة، أو تلك التي تصدّت لأحداث سياسية مهمّة مثل قصيدة «القصيدة الدمشقية» و«أنا يا صديقة متعبٌ بعروبتي»، و«هوامش على دفتر النكسة»، و«السيرة الذاتية لسَيّاف عربي»، و«المهرولون»، و«الديك» و«متى يعلنون وفاة العرب؟»، وبعض قصائد ديوان «الرسم بالكلمات»، التي كتبها الشاعر في إسبانيا. هنا، أودّ أن أسجّل أنني لطالما اعتقدت أن أسلوب نزار قباني النثري يضارع الشعري، إن لم يتفوَّق عليه، وأدهشني في الكتاب اعتراف نزار نفسه بهذا حين قال: «أعترف أنني أعتبر نثري أهمّ من شعري، لأنني مع نثري عصفورٌ طائر، ليس هناك حدود لا لأجنحتي، ولا للفضاءات التي أكبر فيها. أما الشعر، فهو نظام ورقابة وممارسة ومسؤولية».
نزار قباني مبدع يكتب بالسكّين. وسواء أكَتَبَ عن الحب أمّ كَتَب عن الحرب، فقد كَتَب بدمه، موحِدّاً بين عشق الحبيبة وعشق دمشق وعشق الوطن العربي الكبير. لكن العشق يحرق الأعصاب والأصابع، والمبدع يحلم بنور التغيير والثورة. لهذا قال نزار: «الآن، الشعر هو التحام بالناس.. بالجمهور.. بالقضايا. لتسمحوا لي إذا صرخت. ويحقّ لي أن أصرخ كإنسان متألَّم وموجوع. أما ما كتبته عن الأمة العربية، فمن دافع الحب، ومن دافع العشق الكبير، فالذي يعشق حبيبته يذهب ليحضر لها دواء. أما إذا استعصى الدواء.. فيأتي ويفتح مكان الجرح».
مجلة الدوحة