هاندكه يدون يومياته وهبة شريف تترجمها
تشكل خواطر الروائي النمساوي بيتر هاندكه التي ترجمتها أخيرا د.هبة شريف جزءا لا يتجزأ من عالمه الإبداعي والفكري، فهذا الكاتب والقارئ النهم والمترجم المنفتح على مختلف الثقافات، يتمتع برؤى مختلفة على مستوى معالجته لموضوعات رواياته أو مسرحياته أو أفكاره السياسية والاجتماعية، وهذا الاختلاف يمتد لأسلوبه ولغته ورؤيته للعالم حوله. هذا الاختلاف ربما يكون وراء ما حققه من فرادة ومكنه تحقيق من حضور عالمي حصد به العديد من الجوائز الأدبية وآخرها جائزة نوبل 2019.
في مقدمة ترجمتها ليوميات هاندكه التي جاءت تحت عنوان “ثقل العالم” وضمت خواطره وملاحظاته من نوفمبر/تشرين الثاني 1975 إلى مارس/آذار 1977، تكشف د.هبة شريف أستاذ الأدب الألماني والأدب المقارن ظروف كتابة هذه اليوميات، وتحلل أسلوب هاندكه في كتابتها وعلاقته بأعماله، حيث رأت أنه ينقلها – بيتر هاندكه – إلينا، وكأنه يريد منا أن نفهم الطريقة التي يتبعها في كتابة أعماله.
يبدأ هاندكه – قبل وأثناء عمل ما وأثنائه – بالتدوين في “دفتر ملاحظات” فقرات وجملًا، هي في الأصل المخزون الذي يستقي منه الكتابة. يصف هاندكه نفسه وهو يسجل ويراقب كأنه “مخبر خاص، عليه ألا ينتبه إلى أي شيء محدد”؛ ولكنه ينتبه لكل شيء. يجعلنا هاندكه نرى في “ثقل العالم”، كيف إن كل ما يدركه يوميًا “يُترجم في ذهنه إلى نظام من أجل الاستخدام في عمل لاحق”.
وقالت شريف في مقدمتها للكتاب الصادر عن دار العربي للنشر “بدأ هاندكه كتابة هذه اليوميات مع بداية عمله على قصة “المرأة العسراء”. ولكن، مع الوقت، اتخذت هذه اليوميات شكلًا آخر، واستقلت بنفسها لتصبح عملًا قائمًا بذاته. وهذا على الرغم مما تتضمنه من إشارات إلى أعماله الأدبية التي كان يعمل عليها أثناء كتابة اليوميات أو الأعمال التي انتهى منها، أو تتضمن إشارات إلى كتب أدبية وأفلام وموسيقى لفتت انتباهه أثناء عمله.
أصبحت هذه اليوميات بالنسبة لـ هاندكه شكلًا أدبيًا جديدًا، تمرن فيه على التفاعل مع كل لحظة وعي، ومع كل موقف صغير يمر أمامه وتلاحظه عيناه. فهو يسجل مثلًا؛ كيف لاحظ كلبًا من فصيلة “جيرمان شيبرد” واقفًا فوق كومة رمل بلا حراك، أو يسجل كيف انتبه إلى حلقات الأستك التي ارتدتها بائعة في متجر بيع الأطعمة الراقية حول معصمها، أو يصف لنا سعادته مع موقف يومي عادي متكرر، مثل الزهور التي ترتعش على المائدة التي يستند إليها عندما يدق قلبه”.
ولفتت شريف إلى أن “المواقف المتضمنة في هذه اليوميات عبارة عن مواقف صغيرة يمكن أن يمر بها كل واحد منا، ولكن الفارق هو أننا لا ندركها مثلما يدركها “هاندكه” بهذا الانتباه وبهذه الدرجة من الوعي. كما أننا لا نصفها بتلك اللغة المبتكرة التي يصفها بها. فكلنا نمشي في الشارع ونلمح مواقف لا نتوقف عندها وننساها سريعًا، إلا هاندكه؛ فهو يرى المرأة التي تحمل أكياس التسوق كما نراها نحن أيضًا؛ إنها “تقف… وتنتظر شيئًا ما”، ولكننا لا ننتبه لها ولا نضيف ثقلًا لوقوفها كما يفعل هو؛ كأنها “تنتظر حلًا على المدى القصير”. جميعنا نركب الباصات ونراقب الركاب الآخرين، ولكن وحده هاندكه من يسجل هذا الموقف اليومي المتكرر ولا يرى في الركاب الآخرين مجرد “كائنات تجلس في صمت وحدها”، بل يرى أبعد من ذلك ويدرك أكثر منا أن ثمة شخصا يقف هناك في الباص، “متوحدًا مع حزنه” ويتمايل مع الباص في كل حركة. وفي المستشفى، لا يرقد هاندكه مثل المرضى الآخرين مركزًا فقط على الألم ومنتظرًا الشفاء، هو يتألم وينتظر مثلهم، ولكنه بالإضافة إلى ذلك يراقب ويسجل مشاهد قد لا تسترعي انتباهنا، فيقارن بين وميض جهاز رسم القلب ووميض النور في الطائرات الهابطة في المطار والتي يراها من النافذة.
وأوضحت شريف أن “المواقف التي تبدو بسيطة والروائح والمشاعر اليومية العادية جدًا تأخذ لدى هاندكه بعدًا آخر ويصفها بلغة أخرى، لأنه لا يريد أن يستخدم لغة “أصبحت من فرط اعتيادها… عاجزة”. إنه يحاول رؤية غير العادي فيما هو عادي مستعينًا بلغة غير عادية أيضًا. ولعل هذه اللغة التي يبتكرها هاندكه هي أول شيء يمكن أن يثير تساؤلات القارئ، فنحن لسنا معتادين على هذه التجارب اللغوية من أجل العثور على لغة تفتقر إلى العبارات المعتادة. لغة هاندكه حميمية خاصة به وحده قد تثير حيرتنا بسبب غموضها بل وضيقنا أحيانًا. وهنا تصبح ترجمة لغته – التي فاز بسبب “إبداعه فيها” بجائزة نوبل – هي أكبر تحد يواجه مترجم أعمال هاندكه، ومن بعده قارئه الذي يقرأ الترجمة. فهو يختار أحيانًا تراكيب لغوية ليست موجودة في اللغة الألمانية، ولكنها تراكيب تعبِّر بكل دقة عمَّا يريد قوله وعن هدفه في عدم تكرار العبارات العادية، فيختار مثلًا أن يقول “لحظة غريبة من لحظات التضاعف”، بدلًا من أن يقول إنها لحظة تتكرر، لأنه لا يريد استخدام كلمة “تتكرر” المستهلكة لغويًا بالفعل. أو يختار أن يكتب مصطلح “اللا شخوص” ويقصد به الأشخاص الذين فقدوا إنسانيتهم، في حين أنه كان من الممكن أن يكتب “ناس فقدوا إنسانيتهم”، ولكنه اختار كلمة ليست موجودة في الألمانية في واقع الأمر، ولكنها تفي بالنسبة له بالمعنى أكثر من الكلمة الدارجة”.
وأضافت “هنا يلقى على عاتق المترجم مسؤوليتان: الأولى هي نقل المعنى، والثانية – الأكثر إرهاقًا وصعوبة – هي الاحتفاظ بنفس غموض وابتكار لغة النص الأصلي والحفاظ على خصوصيته. فأسلوب هاندكه يبدو جافًا، ويصبح مع الترجمة أكثر جفافًا، فهو يكثف اللغة تكثيفًا شديدًا، فيبني الجمل للمجهول ولا يلجأ للفاعل، أو يختار كلمة “المرء” بدلًا من اختيار فاعل بعينه. وكثيرًا ما يلجأ إلى تنحية نفسه تمامًا عن اللغة في النص، لأنه لا يريد أن يكون حاضرًا فيه، لا هو ولا أي شخص آخر. يحتفظ هاندكه دائمًا بمسافة بين نفسه وبين لحظات الوعي التي يسجلها لأنه يريد لها أن تكون تسجيلًا محايدًا غير متأثر بالمشاعر الشخصية، فيختار جملًا مثل: “الرغبة في الجلوس على مقعد من الصلب”، بدلًا من أن يقول: “أرغب في الجلوس على مقعد من الصلب”. وعندما يذكر طفلته، يقول عنها “الطفلة” أو “طفلة”، أو يستعيض أحيانًا عن اسمها واسم أي شخص آخر بالحروف الأولى “أ”، “ف”، “ج”.
ورأت شريف أنه قد لا يستحسن القارئ لغة هاندكه، لأنه يتعمد ألا يكتب نصوصًا جميلة مليئة بالمجاز والاستعارات والمحسنات اللفظية والصور البلاغية. فالبلاغة تكمن بالنسبة له في التكثيف وتركيز اللغة، بل إنه أحيانًا ما يفضل “الصمت” على البلاغة، فهو يقول عن الكتابة إنها بالنسبة له “شيء جديد يسطع في صمت”. وهذه صورة غير معتادة، لأن جوهر الكتابة هي اللغة التي يستحيل أن تكون صامتة. ولهذا لا نجد أن لغة هاندكه ثرثارة أو بها تكرار أو كلمة زائدة عن الحاجة، إنها لغة مركزة للغاية وترجمتها صعبة. ويقف المترجم أحيانًا حائرًا أمام مثل هذه النصوص، فهدف النص الأصلي هو التكثيف والتركيز والحياد، ولا بد أن تنقل الترجمة الهدف المقصود، وليس المقصود من هذا النص أن يكون عملًا سلسًا في لغته الأصلية، ولا الهدف من الترجمة أن يحسن المترجم العمل من أجل استساغته بشكل أفضل. فالصعوبة مقصودة والتكثيف مقصود والتراكيب اللغوية غير المعتادة وحتى تعمده عدم استخدام بعض علامات الترقيم هو ما يشكل أساس هذا النص. وتوصيل الإحساس بهذا التكثيف والتركيز والتجريب اللغوي والأسلوب المحايد الجاف المتعمد هو أيضًا مسئولية المترجم وأمانته حتى لو شعر القارئ أحيانًا بالضيق والتعجب من غرابة النص”.
أما بيتر هاندكه فكتب إلى قارئ هذه اليوميات تحت عنوان “ملاحظة أولية” أنه “لم يكن الشكل الذي ظهرت به هذه المدونات هنا مخططًا له من قبل. بدأ تسجيل هذه المدونات بغرض إدراجها في سياق، ربما في سياق قصة أو في سياق مسرحية “صامتة”، كما يشير الوصف الزائد للحركات واللفتات في بداية المدونات. كان كل ما أدركه يوميًا يُترجم في ذهني إلى نظام من أجل الاستخدام، نعم، كل ما أدركه، في حد ذاته، كما حدث بالصدفة، كان موجهًا لغرض محتمل. الانطباعات، لحظات التجارب، التي فشلتُ في تضمينها في شكر مرجع أعود إليه وأنا أكتب شكلًا أدبيًا تحدد مسبقًا، كانت لحظات وانطباعات “يمكن نسيانها”.
وأضاف “وضعت نفسي في حالة انتباه متوتر بسبب هذه المدونات، ولهذا السبب لفت انتباهي هذا النسيان اليومي. بدا لي هذا النسيان على الفور تقصيرًا، وهكذا بدأت أسجل فورًا أي أحداث دخلت وعيي حتى لو كانت لا تخدم أي مشروع. هكذا، بدأتُ هدم الخطة شيئًا فشيئًا، ولم يتبقَ سوى تلك المدوَّنات العفوية للأحداث المُدرَكة والخالية من أي غرض. كلما استمررت في ذلك، زادت قوة تجربة التحرر من الأشكال الأدبية المحددة، زادت معها قوة تجربة الحرية في اختيار شكل أدبي لم يكن معروفًا لي حتى ذلك الوقت.
وأوضح “بدأت أمّرِن نفسي على التفاعل مع كل ما يحدث لي فورًا بواسطة اللغة، ولاحظت كيف أن خلال لحظة التجربة وخلال هذه القفزة الزمنية، تعود اللغة للحياة وتغدو غير مباشرة؛ وبعد لحظة، تعود مرة أخرى لتصبح اللغة التي نسمعها يوميًا، أي اللغة التي أصبحت من فرط اعتيادها لا تعني شيئًا، لغة عاجزة، لغة تتكون من جملة “أنت تعرف بالفعل ما أريد أن أقوله». طوال هذا الوقت المستقطع يصبح المخزون اللغوي الذي يمر عليَّ ليلًا ونهارًا شيئًا ملموسًا. كان كل ما أمر به، أيًا كان، يبدو لي، في هذه اللحظة من “لحظات اللغة”، عموميًا ومتحررًا من كل خصوصية. ركزت على تلك اللحظات التي تغدو فيها اللغة حية باستمتاع يتزايد، وبدأت تلك اللحظات تتكرر بشكل أكبر، وفي النهاية، فقدت تلك اللحظات آنيتها وتحولت إلى تجربة هادئة، ولكنها قوية ومستمرة على كل حال.
وكشف هاندكه أن “هذا الكتاب عبارة عن تقرير؛ إنه ليس قصة عن الوعي، ولكنه تقرير مسجَّل عن الوعي بشكل مباشر ومتزامن. قد يصاحبُ نشرَ هذا التقرير عن وعي شخص واحد في صورة كتاب افتراضٌ بأنه ربما يكون تقريرًا مدعيًّا ومتعجرفًا، ولكنني أتمنى أن أكون قد استطعت تفنيد هذا الافتراض بواسطة قناعتي أن هذا الوعي – (أنا) – يهدف إلى شيء ما؛ فهو وعي – بالمعنى العاطفي – يريد اختراق ذاته بشكل متواصل”.
وختم بأن “الأحداث الخارجية (موت صديق، دخول المستشفى، الانتقال من سكن إلى آخر)، لا تُذكر هنا أبدًا، على عكس ما قد يحدث في التقارير عادة، ولكنها تُستشف من خلال ردود الفعل عليها في التقرير. كان من الضروري أن تتزامن ردود الأفعال مع الكتابة عنها، فأصبح هذا التزامن ملازمًا لي في كل مناحي الحياة، باستثناء الكتابة؛ كنت أدفع نفسي دفعًا للقيام فورًا بأي رد فعل حتى أثناء نومي؛ يمكن أن أحكي قصصًا طويلة عن الطريقة التي أتممت بها بعض الكتابات، مثل تلك القصص التي نسمعها مصاحبة للصور التي يعرضها شخص عاد من رحلة استكشافية، إلا إن ما أحكيه قد يكون أكثر غرابة. وفي الوقت نفسه، كنت أعمل على كتابة أعمال أدبية أخرى، قصة “المرأة العسراء” وأعمال أخرى، فكنت أدون أيضًا الملاحظات لتخدم هذا الهدف. تتمثل مشكلة هذا التقرير فقط في عدم وجود نهاية له؛ فنهايته مفاجئة. لأن النهاية الشارحة ستكون بمثابة التسامح مع النسيان الذي يحدث بشكل دائم على أية حال”.
ميدل إيست أونلاين