ما الأسباب الخمسة التي نعتقد أنّها تَقِف خلف “غضبة” الأمير تركي الفيصل “غير المسبوقة” ضدّ إسرائيل في ذروة التّطبيع الخليجي؟ هل هي سحابة “عابرة” أم نتيجة مُراجعات عميقة؟ وما عًلاقتها بالمُصالحة المطروحة بين السعوديّة وقطر؟
جاءت “غضبة” الأمير تركي الفيصل رئيس جهاز الاستِخبارات وسفير المملكة العربيّة السعوديّة الأسبق في كُل من لندن وواشنطن التي عبّر عنها بلُغةٍ عنيفة أثناء مُشاركته في “حِوار المنامة” وهاجم فيها دولة الاحتِلال الإسرائيلي مُفاجئةٍ للكثيرين في المِنطقة، وخاصّةً داخِل السعوديّة ودول الخليج، من حيثُ توقيتها وقوّتها، والمُلاسنة التي تَبِعَتها بينه وبين غابي أشكنازي وزير الخارجيّة الإسرائيلي الذي كان من بين المُشاركين أيضًا.
هذه الغضبة تُذكّرنا بأُخرى أقدم عليها الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان أثناء مُشاركته في ندوةٍ مُماثلة في مُؤتمر دافوس بسويسرا (29 يناير 2009) حيث صبّ جام غضبه على شمعون بيريس رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينها واتّهمه بالكذب وحُكومته بقتل الأطفال والابرياء العُزّل في قِطاع غزّة بدَمٍ بارد، وانسحب من الجلسة احتِجاجًا، بينما بَقِي عمرو موسى أمين عام الجامعة العربيّة في مِقعَده، مع اعتِرافنا بوجود بعض الاختِلافات بين الجانبين.
التّوقيت مُهم، لأنّ هذه الغضبة جاءت في وقتٍ يُوَقّع فيه حُلفاء المملكة مِثل الإمارات والبحرين اتّفاقات تطبيع مع “إسرائيل” بمُباركتها، وفتح أجوائها، أيّ السعوديّة، أمام الطّائرات الإسرائيليّة، وتأكيدها بأنّ هذا التّطبيع قرارٌ سياديّ، أمّا لهجة هذا الهُجوم الذي ورد على لِسان أمير سعودي كان مسؤولًا عن فتح قنوات الحِوار مع نُظرائه من المسؤولين الإسرائيليين، في أكثر من مُؤتمر، وأكثر من عاصمة غربيّة، فكانت شديدةً وكأنّها تصدر عن قائد لأحد أكثر الحركات الفِلسطينيّة تَطرُّفًا.
الأمير الفيصل وصف “إسرائيل” بأنّها آخِر القِوى الاستعماريّة الغربيّة في الشّرق الاوسط، تُدمّر المنازل وتغتال من تشاء، وتُهَجِّر الفِلسطينيين قسرًا، وتُصدِر قوانين عُنصريّة تجعل من “إسرائيل” وطنًا لليهود فقط، وتُحرّم الحُقوق المُتساوية للعرب المَسيحيين والمُسلمين، وتُقيم الأسوار العازلة وتتغوّل في بِناء المُستوطنات.
هذا الانفِجار غير المسبوق في الأعوام الأخيرة من قبل مسؤول سعودي كان أوّل من التَقى المسؤولين الإسرائيليين وصافحهم علنًا، وتحت الأضواء، يطرح العديد من الأسئلة عن أسبابه والدّوافع التي تَكمُن خلفه والتي يُمكِن تلخيصها في النّقاط التّالية:
أوّلًا: هُناك تقارير صحافيّة غربيّة تُؤكّد أنّ هذه “الغضبة” جاءت انعِكاسًا لاستِياء في داخِل دائرة الأمير محمد بن سلمان الحاكِم الفِعلي للمملكة، بسبب تسريب بنيامين نِتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي أنباء عقده لِقاءً سِريًّا معه، أيّ الأمير محمد بن سلمان، في مدينة “نيوم” السياحيّة شِمال البحر الأحمر، بحُضور مايك بومبيو وزير الخارجيّة الأمريكي قبل أسبوعين، فالأمير بن سلمان أراد أن يكون هذا اللّقاء سِرِّيًّا، ونفى الأمير فيصل بن فرحان، وزير الخارجيّة السعودي، حُدوث هذا اللّقاء لاحِقًا، وذكرت صُحف إسرائيلية أنّ السعوديّة ألغت زيارةً سِريّةً ليوسي كوهين، رئيس الموساد، كانت مُقرّرةً الأُسبوع الحالي غضبًا واستِياءً.
ثانيًا: توارد بعض التقارير الإخباريّة من داخِل المملكة تتحدّث عن وجود انقِسام داخِل الأُسرة السعوديّة الحاكمة حول مسألة التّطبيع خاصّةً بين الملك سلمان بن عبد العزيز ووليّ عهده، حتى أنّ العاهل السعودي لم يعلم بحُدوث لقاء نيوم الثّلاثي، أو حتّى فتح أجواء المملكة للطائرات الإسرائيليّة، ومُعارضته أيّ شكل من أشكال التّطبيع مع دولة الاحتلال إلا بعد تطبيق مُبادرة السّلام العربيّة على عكس وليّ عهده، والأمير تركي الفيصل أقرب في موقفه إلى العاهل السعودي في هذه المسألة.
ثالثًا: وجود خلافات جديّة بين المملكة والدول الخليجيّة المُطبّعة مع “إسرائيل”، وخاصّةً دولة الإمارات العربيّة المتحدة ومن قِبَل جناح العاهل السعودي بالذّات، ويتّضح هذا الخِلاف في أبرز صُوره من خِلال تشكيك الأمير الفيصل باتّفاقات السّلام الأخيرة وقوله “لا يُمكنك علاج جرح مفتوح باستِخدام مُسكّنات الألم”، وتغريدة الدكتور عبد الخالق عبد الله أحد المُقرّبين من الشيخ محمد بن زايد وقال فيها لن يكون هُناك مُصالحة قطريّة سعوديّة دُون مُوافقة أبوظبي، وهي التّغريدة التي حذفها لاحِقًا.
رابعًا: التّقارب السّعودي الأخير مع كُل من قطر، وتركيا، وتصاعد الحديث عن مُصالحة وشيكة بين الجارين “الوهّابيين”، أيّ قطر والسعوديّة، ودُون التّشاور والتّنسيق المُسبَقين مع الدّول الثّلاث الأُخرى في الخِلاف والمُقاطعة الشّاملة لقطر بعد زيارة جاريد كوشنر صِهر الرئيس الأمريكي “الغامضة” للمملكة، ربّما يَعكِس هذا التّقارب نتائج مُراجعات سعوديّة جاءت بعد تراجع مكانة المملكة وهيبتها وزعامتها للعالمين العربيّ والإسلاميّ، ممّا أدّى إلى تغيير النّهج وتبنّي سِياسات مُتشدّدة تُجاه إسرائيل وامريكا خاصّةً بعد هزيمة حليفها ترامب ونجاح الدّيمقراطي جو بايدن برئاسة أمريكا.
خامسًا: وقوف “إسرائيل” بشكل مباشر وغير مباشر خلف الحملات الإعلاميّة الشّرسة التي تستهدف المملكة خاصّةً في الولايات المتحدة حيث يُسيطر اللّوبي اليهودي على مُعظم أجهزة الإعلام النّافذة، وأشار الأمير تركي الفيصل إلى هذه المسألة بوضوح عندما قال “يُريدون الصّداقة مع السعوديّة وفي الوقت نفسه يُطلقون العنان لأتباعهم السّياسيين وكِلابهم في الإعلام من كل الدول لشيطنة المملكة وتشويه صورتها”، وأعاد التذكير بأنّ دوري غولد المسؤول الإسرائيلي والسّفير السّابق المُشارك في الندوة ألّف كِتابًا نشره عام 2003 تحت عُنوان “مملكة الكراهية ورعاية الإرهاب”.
خِتامًا نقول إنّنا في هذه الصّحيفة “رأي اليوم” نُؤيّد كُل كلمة وردت على لسان الأمير تركي الفيصل، لأنّ ما قاله هو الحق الذي يُذكِّرنا بموقف والده الملك فيصل بن عبد العزيز الذي سقط شهيدًا بسبب دعوته للجِهاد من أجل تحرير القدس ومسجدها الأقصى، ولم يتردّد لحظةً في استِخدام سِلاح النّفط دعمًا لمِصر وسورية أثناء حرب العاشِر من أكتوبر عام 1973.
نعم إسرائيل دولة عُنصريّة تقتل من تشاء من أبناء الأرض المُحتلّة، وتُدمّر المنازل وتُقيم المُستوطنات وتعتقل آلاف الأسرى، وأي موقف سعودي أو عربي أو إسلامي يتمسّك بالثّوابت العربيّة والإسلاميّة ويُشهِر سيف الحق والعدالة في وجه الاحتِلال الإسرائيلي يستحق الدّعم والمُساندة، ونتّفق مع الامير الفيصل في أنّ السّلام سيظل بعيد المنال حتّى قِيام دولة فِلسطينيّة مُستقلّة.
السّؤال الأخير هو: هل ستكون “غضبة” الأمير الفيصل هذه “وقتيّة”، أم أنّها بداية تحوّل سياسي مُهم ودائم، وعودة لردّ الاعتِبار لمُبادرة السّلام السعوديّة التي احتقرتها “إسرائيل”؟
نترك الإجابة للأسابيع والأشهر المُقبلة.. واللُه أعلم بِما في الصّدور.
صحيفة رأي اليوم الالكترونية