لماذا يجوع السوريون؟ (فايز سارة)
فايز سارة
ربما لم يتوقع احد ممن يعرفون سوريا والسوريين، مجيء يوم يقال فيه ان ثمة سوريين يطحنهم الجوع. بل وفي اغلب الظن، لم يتوقع احد، ان يتجاوز الامر ما سبق، وان يتضمن تقرير للامم المتحدة تأكيداً، على ان هناك مليون سوري، صاروا فريسة للجوع. وقد صدر التقرير قبل ايام، بعد تقارير اممية، لم يأخذها كثيرون على محمل الجد، تحدثت في الاشهر الماضية عن جوع، يهدد ثلاثة ملايين سوري في مدى قريب.
غريب أن يتهدد الجوع السوريين. تاريخ هذا البلد معروف، كان يعرف بـ«اهراءات روما». تغيرت معطيات كثيرة منذ ذلك الزمان. لكن الغرابة، تستند الى معطيات داخلية، بعضها يتعلق بالارض، وآخر يتصل بالسكان. فسوريا التي تصل مساحتها الى مائة وخمسة وثمانين الف كيلو متر مربع، وفيها نحو ثلاثة وعشرين مليون نسمة، تملك قدرات زراعية كبيرة، وخاصة في ميدان الزراعات الغذائية والانتاج الحيواني، حيث هناك اراض ومياه وتنوع بيئات، نجدها مكثفة في سهول الجزيرة السورية، التي تنتج الحبوب، ولاسيما القمح، وفي سهول الشمال في حلب وادلب، التي تشارك الساحل السوري الاشجار المثمرة والخضار، وهي السمة العامة للزراعة في وادي العاصي، فيما تتعدد انواع الانتاج الزراعي في سهول ومرتفعات الجنوب، لتشمل الخضار والاشجار المثمرة والحبوب، وخلاصة حالة الانتاج الزراعي الغذائي في سوريا، انها بين بلدان قليلة في المنطقة، حققت اكتفاءً غذائياً، واحتياطاً استراتيجياً في القمح ومحاصيل اخرى على مدار عقود مضت، بالتزامن مع انتاج حيواني كبير، فيه نحو خمس عشرة مليون رأس من الاغنام، وعدد هائل من انتاج البيض ولحوم الدواجن، وكان يصدر فائضه الى دول الجوار على نحو ما هي عليه حالة الانتاج الزراعي من الغذاء.
ولم يكن الانتاج الغذائي خارج اطار الاهتمام الكبير الذي يبذله الفلاحون السوريون المعروفون بجدهم واجتهادهم، فقد غرسوا في العقود الثلاثة الماضية خمسة وسبعين مليون شجرة زيتون في اراض دخلتها زراعة الزيتون لاول مرة، كما هو حال سهول حوران والجولان، وزرع الفلاحون مساحات واسعة من اشجار التفاح والحمضيات والفستق الحلبي في جنوب وشمال البلاد والساحل، واغلبها لم تكن زراعات رائجة ومنتشرة في السابق، وهذه مجرد امثلة على جدية الفلاحين وعلى قدرتهم في تجديد انتاجهم استناداً الى الظروف المحيطة، ومنها قلة المياه، وحاجة سوق الاستهلاك، والعائد الاقتصادي للزراعة.
ان نجاح الزراعة السورية في احد وجوهه، كان يمثل تحدياً جدياً من جانب الفلاحين للبيروقراطية الحكومية وفسادها، التي كان يمكن ان تدمر الزراعة كلها، وليس الانتاج الغذائي وحده بفعل تحكمها بالقروض التي تقدمها الحكومة، فيأخذ الفاسدون والمقربون من النظام أكثرها، ومن خلال التحكم بالبذار والاسمدة اللذين توزعهما الحكومة عن طريق الجمعيات الفلاحية ويحصل عليهما اصحاب الحظوة، ومن خلال سياسات الفرض الزراعي على الفلاحين لنوعية وحجم الانتاج لبعض المحاصيل مثل القمح والقطن والتبغ، وقد استطاع الفلاحون بفعل جدهم وصبرهم، تجاوز تلك السياسات والالتفاف عليها من اجل الاستمرار في دورهم الانتاجي.
غير ان قدرات الفلاحين وبيئة الزراعة السورية في العامين الاخيرين، اختلت بعد ان تعرضت لانتهاك وتدمير، تجاوزا حدود سياسات البيروقراطية والفساد المعروفة، الى سياسات امنية انتقامية، شاعت في اغلب مناطق الريف السوري من دير الزور شرقاً الى ارياف حمص وصولا الى ريف اللاذقية، ومن سهول حلب في الشمال الى سهول درعا مروراً بادلب وريف دمشق، وكلها مناطق شهدت حركات احتجاج وتظاهر، قبل ان يتحول اغلبها الى مسرح للاعمال العسكرية، في الصدام بين القوات الحكومية وقوى المعارضة المسلحة، وهو تحول سبقته وتمت في اطاره عمليات دمار للاراضي الزراعية ومنشآت الانتاج الحيواني نتيجة لاسباب امنية، وغالباً لانتقام او لالقاء الرعب في قلوب الفلاحين ومنعهم من الاحتجاج والمشاركة في اعمال المعارضة المسلحة. وترافقت تلك الاعمال مع تدمير لمناطق سكنية في كثير من الارياف، والامثلة في ذلك لا تحصى، من قرى درعا وريف دمشق، وقرى حمص وادلب وريف حلب، وترتب على دمار البنى التحتية للزراعة، وصيرورة الريف ميداناً للصدامات العسكرية، ان هجر اغلب السكان قراهم.
لقد فاقمت ظروف اخرى في تدهور الزراعة السورية وخاصة الغذائية، كان ابرزها تدهور وضع الطاقة ومنه فقدان المازوت وارتفاع اسعاره لأكثر من ثلاثة اضعاف، وتقنين او انقطاع الكهرباء، وفقدان البذور والاسمدة ونقص السيولة المالية، وارتفاع تكاليف النقل من اماكن الانتاج الى اسواق الاستهلاك، ثم صعوبات الانتقال ليس بين المحافظات، انما داخل المحافظة الواحدة وسط اجواء امنية شديدة الصعوبة والخطر، ما ادى الى تدهور في الناتج الزراعي ومنه الزراعة الغذائية، واذا استمر الوضع على ما هو عليه، فان الزراعة السورية ستموت في قسمها الاكبر، ويزداد عدد الجائعين في سوريا بصورة كبيرة.
صحيفة السفير اللبنانية