«مسارات» جنوبي بملامح ماركو بولو (مايا الحاج)
مايا الحاج
الإنسانية لها حكاياتها الحميمة في كلّ شخص، وفي حكاية بطل هذا الكتاب البيوغرافي «مسارات» يُمكن أن نستحضر حكاية الإنسان نفسه. فمن طفولة قروية في جنوب لبنان إلى حلم اكتشاف أميركا، فالوصول صدفة إلى القارّة السمراء، يعيش القارئ تحولاّت رجل مُغامر ولد في مطلع القرن العشرين، وحمل آمال أبناء ذاك الزمن وأحلامهم.
«مع لفظه النََفس الأخير، تنتهي حكاية هذا الجنوبي المولع بالمغامرات واكتشاف الفضاءات الجديدة»… هكذا يختتم الكاتب صالح رضا حكاية جدّه الذي اختاره بطلاً لسيرة وضعها بالفرنسية بعنوان «مسارات». إنّها سيرة واقعية مكشوفة الهويّة، زماناً ومكاناً: «ولد في عائلة مرموقة العام 1897 في شقرا، قرية في جنوب لبنان تتربّع على تلّة مطلّة على الوادي».
لا يروي رضا صالح سيرته الشخصية، مع أنّه يُقحم نفسه بالأحداث اللاحقة مُستخدماً ضمير المتكلّم «أنا»، انطلاقاً من كونه حفيد الشخصية الرئيسة، السيّد عبد الهادي عبدالله صالح خلف. لكنّه يكتب سيرة جدّه كاشفاً تفاصيل التفاصيل في حياة الجدّ، حتى يُخيّل إلى القارئ أنّ «ذات» الحفيد و»ذات» جدّه تداخلتا وأضحتا ذاتاً واحدة.
تُصوّر السيرة التي يكتبها رضا صالح بالفرنسية حياةً مُكتملة، بدءاً من طفولة عبدالهادي وحتى موته. يُشير الكاتب إلى بطل سيرته مرّة بالضمير الغائب «هو»، وأخرى باسمه الأوّل. وأحياناً يُشرك القارئ معه في لعبة «الحكي» عن زمن الجدّ، فيُسمّيه «مُغامرنا».
يحمل الجدّ – البطل بعضاً من ملامح ماركو بولو وإبن بطوطة وكبار الرحّالة في العالم، فهو لم يحلم بالسفر بغية الهرب من وضع أمني معين أو بهدف تحسين واقعه المادي، بل كان يحلم بالسفر محبّة بالسفر نفسه، أو بمعنى آخر رغبة في المغامرة والاكتشاف.
القارّة الجديدة كانت تشغل باله ليل نهار، وقبل أن يُسافر بأشهر، لم تعد العائلة تسمع منه سوى كلمة «أميركا». ويسرد الكاتب/ الحفيد رحلة سفر جدّه التي كانت أمراً عجيباً في تلك الأيام: «في نهار الاثنين من أحدّ أيّام كانون الأول(يناير) الباردة، ترك عائلته وهو يركب حصاناً ليوصله إلى مكان السيّارة التي تنتظره على بعد كيلومترات، لكي يذهب إلى العاصمة بيروت».
لا تعرض السيرة الأحداث الحقيقية فقط، بل إنّها تتأرجح بين الوثيقة التاريخية والأدب. فيعتمد الكاتب لغة تُزاوج بين التوثيقية والشعرية، ويحاول من خلالها عرض أهمّ الوقائع التي طبعت حياة جدّه. هذا الجدّ الذي عاصر أهمّ التحولات التي شهدها العالم من بداية القرن العشرين وحتى نهايت.
فصلاً بعد فصل، يكتشف القارئ أنّ سيرة الجدّ هي ليست إلاّ سيرة المكان نفسه، أو ربما الزمان. وفي كشفه مسارات عبد الهادي صالح خلف، كشف الكاتب حكاية جيل من أبناء الجنوب اللبناني، وقد هاجر وأسّس عائلات وثروات خارج وطنه.
تتميّز السيرة التي يكتبها رضا صالح بخصوصيتها وغرابة طابعها. فالكتاب هو أشبه بوثيقة شخصية أو دفتر يوميات، غلافه من الورق السميك المُصفر كأنّه دفتر عتيق وُجد بين مُقتنيات الجدّ نفسه.
يحتوي الكتاب أيضاً على صور صاحب السيرة ووثائقه وإخراج قيده، حتى يغدو الكتاب أشبه بورقة ثبوتية. أمّا عنوان الكتاب «مسارات» فحُفر على الغلاف، تماماً كما حُفرت صورة صاحب هذه المسارات في أذهان أولاده وأحفاده الذين مازالوا يفتخرون بأنّ لهم جدّاً عاصر التحولاّت وجاب القارات، من غير أن ينسى أنّ له وطناً يعود إليه.