«يا مريم» لسنان أنطون.. التراجيديا العراقية (انطوان ابو زيد)

 

انطوان ابو زيد

رواية سنان أنطون، «يا مريم»، الطافحة بالألم والمرارة، والصادرة العام 2013، عن دار الجمل، ربما تكون الرواية الأولى، على حدّ علمنا، التي تتطرّق الى مأساة المسيحيين في العراق، وسطَ مآسي العراقيين جميعهم من أبناء جلدتهم ومواطنيهم، بسبب بات معروفاً، وهو تنامي الجماعات الإسلامية المتطرّفة وإعمالها في الجسد العراقي تخريباً وتهشيماً وتشتيتاً لعوامل الوحدة في النسيج الوطني الشامل.
ولكنّ الرواية، على صغرها (159صفحة )، ترفع الستارة عن مشاهد حميمة من حياة عائلة عراقية مسيحية، تدوّن لها تفاصيل من يوميات أفرادها، من دون أن يغفل الكاتب عن ربط هذه المشاهد بروحانية شفيفة، تترجم فعلا عن الخلفيات الدينية التي ينهل منها هؤلاء معنى لوجودهم وبقائهم بعد هذا الوجود الذي يبدو هشّا للغاية، على ما يرسمه الروائي.
تستهلّ الرواية بآية من إنجيل يوحنا («جاء الى بيته، فما قبله أهلُ بيته»، 11:1) التي توحي بالاضطهاد الذي ناله المسيح من الجماعة التي انتمى اليها، حتى الصلب. ولعلّ في هذه الآية كناية كبرى عن اضطهاد الجماعة لفئة منها أو مكوّن، سوف يشير اليه في سياق الآتي من الصفحات. واللافت في الرواية عناوينها الداخلية، التي تؤدّي دوراً تمثيلياً أو تأشيرياً معيناً للقارئ في تتبّعه مسار الأحداث أو الحبكة القصصية التي تبلغ الذروة في ختامها، عنيتُ لدى نجاة «مها»، الشخصية الرئيسية من هجوم إرهابيين على كنيسة سيّدة النجاة في بغداد عام 2010. ولئن كانت الرواية تخطّ مساراً سردياً مطّرداً في نمائه لزوجين، هما مها وعريسها لؤي، من أول مشهد، وهي لا تزال طفلة، في التسعينيات من القرن العشرين، الى آخر مشهد وقد أقبل أحد رجال الأمن، بل الجيش العراقي لنجدتها، وهي تلملم نفسها بين جثث القتلى، فإنّ عنواناً واحداً هو «أن تعيش في الماضي» يطالع القارئ، في الفصل الأول (ص:7)، يتكرر في مطلع الفصل الثاني (ص:69). وتفسيره أنّ الروائيّ خصّ المشهد الأوّل بشخصية، هو عمّ البطلة مها، الذي جعل يعلّل عيشه في الماضي، وفي استعادته ذكرياته، على قولة مها، وصراعه مع الأجيال الفتيّة التي انتبهت الى وجودها وهي نهبٌ للفتن وأعمال القتل والتهجيرالقسريّ والخطف، وفوقها جميعاً باتت موضوعاً للتمييز الطائفي والاضطهاد بأبشع صوَره. وعندئذ، يصير الركون الى الماضي، عبر شخصية العمّ، نموذج المواطن العراقي القائل: «أما أنا فقد عشتُ أزمنة الخير وما أزال أتذكّر وأصدّق بأنها حقيقة» (11)، يصير هذا الركون نوعاً من الدفاع المشروع عن صورة الحياة الهنيّة، الماثلة في الذاكرة، ضدّ الحاضر الذي يفيض عنفاً ووحشية وتمزيقاً للروابط والأواصر بين سائر فئات المجتمع العراقي.»ربما كان الماضي مثل حديقة البيت…إنها فردوسي في قلب الجحيم…».ثمّ يتكرر العنوان عينه (أن تعيش في الماضي ) أول الفصل الثاني، من الرواية ذات الفصول الثلاثة. في الفصل الأول يستكمل الكاتب اللوحة العمومية الشاملة عن عائلة مها، ويفصّل المصائر التي آل إليها كلّ فرد من العائلة الكبرى، التي تنتمي اليها مها، منطلقاً من صور فوتوغرافية منوّعة في زوايا نظرها، وذاهباً الى تفصيل مسارات حيواتهم، كلٌ على حدة (يوسف، أمل، سليمة، غازي، إلياس، ميخائيل )، متتبعاً خطوط رحلاتهم وهجراتهم، نجاحاتهم وإخفاقاتهم وموتهم، في منافيهم، وتهويماتهم، مدموغة جميعها بتربيتهم الدينية موقعة بالطقوس الكلدانية الكنسية وهو أمر نادر في الرواية العربية عدا بعض الروايات والقصص اللبنانية – التي شاءها الكاتب حمّالة دلالات وجدانية على المصائر الدراماتيكية التي تتوالى مشاهدها على مدى الرواية، لهذه الفئة المختلفة ديناً ولهجة ونزعة سلامية في النسيج العراقي المائل الى التجانس القاتل، حديثاً.حتى ليتخيّل القارئ، المتعاون مع الروائي في لحظة التذوق، ومشاركه في صياغة الحكاية، على ما يقوله إيكو، إنّ هذه الفئة، هي الشخصية الجماعية المضحّى بها على مذبح الوطن، على الرغم من أصوات داخلية في الرواية تنبّه الى وقوع التضحية على الشعب العراقي ككل. وليست مها، من هذا القبيل، إلا تجسيداً فردياً لروح هذه الفئة. بدليل أنّ الوصف الذي باشرته مها للمجزرة في كنيسة النجاة، غداة استجوابها من قناة عشتار التلفزيونية كان نوعاً من الإعلان عن ارتياب جماعيّ من الحكم، لتخاذله عن حماية هذه الفئة المستضعفة من المجتمع العراقي، على توصيف الكاتب.

الحبكة الرئيسة والصغرى

والحال أنّ مجرى السرد في الرواة تخترقه حبكة رئيسية واحدة، وهي تطّرد أحداثا وتتنامى وتتعقد الى ختام الرواية، وتتمثّل في شعور الزوجين مها ولؤي الشابين أنهما في ورطة، رغم إحاطة المجتمع الصغير لهما، وانتقالهما للعيش في كنف عائلتها، أول الأمر، بعد الزواج. فيما أخبار التفجيرات وخطف أقاربها من المسيحيين وقتلهم تتوالى، وتقترب من دائرتهم الصغيرة، لتنجح أخيراً في النفاذ الى قلب المنزل الوالدي، ليبدأ تاريخ آخر من التشرّد داخل الوطن، حتى وقوع الاعتداء على كنيسة النجاة، وهو خاتمة الحبكة القصصية الرئيسية بحلّ وقتيّ للغاية بالنظر الى المأساة الجماعية الموصوفة بالتمثيل أما الحلّ النهائي، بلغة السرد طبعاً، فلا مكان له في الرواية لكونه موكولا الى القارئ. ولعلّ الكاتب كان قد أعان القارئ كثيرا، ولا سيما في الفصل الثالث من الرواية، إذ جعل عنوانها «الأمّ الحزينة « كنايةَ دينية مسيحية قصد الروائي أنطون منها إسقاط صورة مريم العذراء الثكلى إبان آلام السيد المسيح وصلبه، على مها التي ثُكلت بجنينها إثر التفجير الذي أصاب منزلها الوالدي، ولم تكد تتعافى من أثر ذينك الموت والعنّة التي صاحبت حزنها على الجنين، حتى وقعت ضحية الاعتداء على الكنيسة المشار اليه أعلاه.أما الحبكة الصغرى التي انطوت عليها الرواية فكانت ذلك البحث العبثي الذي باشره عمّ البطلة السلبية مها، عن رفاق ماضيه واستطلاعه أحوالهم التي تتبدّى له، منذ أن وارى أخته حنّة في الثرى وصار وحيداً في المنزل، عازباً دهرياً في الثمانين من عمره، آخذة في التدهور. يسعنا الكلام الكثير على لغة سنان أنطون المبسّطة، على متانة، وعلى العامّية العراقية التي أعانت على إخراج مكنونات الشخصيات على صدقيّة وواقعية عاليتين، تغري القارئ بتحويلها الى سيناريوهات حميمة.
أما الحوارات التي انخرطت فيها الشخصيات، وبالعامية العراقية أيضاً وأيضاً، فكانت كفيلة بأن ترسم سماتٍ خاصّةً لرأي عام، هو أقرب ما يكون لهاجاً اجتماعياً مختصاً بتعبير بيار زيما، يتداوله مسيحيو العراق، بل الأقليات الكلدانية والأشورية، في زمن مفصليّ عديم الرحمة: في ما خصّ مسؤولية الدولة عن حمايتهم وعن الاعتداء عليهم في آن، وفي تنامي الشعور الطائفي لدى الأجيال الشابة، في مقابل ثبات الحس الوطني والقومي في نفوس الأجيال القديمة. كما يمكن الكلام الكثير على الشعرية العالية الكامنة في استثمار الكاتب شعر زمن الآلام، في التراث الكنسي الماروني والكلداني، إثراءً للغته السردية، وتمكيناً له من صياغة الأسلوب المعادل للحظة المروية. سنان أنطون، كاتب وروائي من العراق، وسارد جراحات العراق بلغة حية وجميلة.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى